يوم الجمعة 72 مايو حمل معه رسائل هامة لجميع من تشغلهم قضايا هذا الوطن ومستقبله. ولم تنطلق هذه الرسائل من ميدان التحرير، وانما من مجموعة كبيرة من المدن المصرية. ما مضمون هذه الرسائل؟ أولا: التأكيد علي حق التظاهر السلمي والرد علي هؤلاء الذين زعموا ان هذا التظاهر »يهز الاستقرار«، وانه اصبح فجأة -في نظر البعض- »وسيلة غير مقبولة«، وقد تتيح الفرصة »للعابثين والمندسين وفلول النظام القديم« لإشعال »نيران الفرقة«.. وجاء يوم الجمعة 72 مايو ردا ايضا علي الذين زعموا ان المشاركة في الاحتشاد في ذلك اليوم انما تعني »ثورة ضد الشعب واغلبيته الواضحة« »!«، وانها »لعب بالنار«!! وستكون »جمعة الخطر« علي مصر»!!« وانها »عمل غير مسئول«!! ثانيا: برهنت مظاهرات الجمعة انه لا صحة علي الاطلاق للادعاء بان المتظاهرين »يستهدفون« إحداث »وقيعة« بين الشعب وقواته المسلحة وقياداتها الممثلة في المجلس الأعلي للقوات المسلحة«. وقد تأكد لدي جميع من شاركوا في مسيرات الجمعة 72 مايو ان هذا »الاستهداف« لا وجود له، وان المتظاهرين يواصلون الحوار مع المجلس الأعلي، الذي انحاز الي الثورة منذ البداية وتولي حمايتها، ولا يوجد أي تناقض بين الشعب والجيش. ثالثا: اثبتت مظاهرات الجمعة ان كل ما تردد حول وجود دعوات »لتخريب منطقة وسط البلد« ودعوات »لاختيار كل قيادات القوات المسلحة بالانتخاب« ليس لها أساس من الصحة.. فلم يرتفع صوت واحد يدعو لهذا المطلب الهزلي، وهو انتخاب قيادات القوات المسلحة، ورغم قرار المجلس الاعلي للقوات المسلحة بعدم التواجد في مناطق المظاهرات نهائيا، فإنه لم يقع -في ظل غياب القوات المسلحة- أي تخريب، بل لقد اثبتت جماهير الثورة يوم الجمعة قدرتها علي »التنظيم والتأمين« - وهو ما طالب به المجلس الأعلي - وعلي إحباط بعض المحاولات اليائسة من جانب عدد من البلطجية لإتلاف منصات في ميدان التحرير، بينما تفرغت القوات المسلحة لتأمين المنشآت المهمة والحيوية. رابعا: رغم كل محاولات التخويف من البلطجية والعناصر المشبوهة وفلول النظام السابق، ورغم عدم توافر أي غطاء أمني.. فإن المواطنين والمواطنات لم يخشوا النزول الي الشارع للتعبير عن رأيهم. ويبدو ان هناك من كان يحرص علي إثارة الفزع من فكرة المشاركة في المظاهرات لأسباب معلومة، رغم ان التخويف من المشاركة - في حالة نجاحه في السابق - كان كفيلا بمنع اندلاع ثورة 52 يناير أصلا. وتكفي الاشارة الي ان تحالفا مدنيا من 24 منظمة في الاسكندرية شاركت في مظاهرات يوم الجمعة. ولا يقصد كاتب هذه السطور الدعوة الي مظاهرات مستمرة بلا توقف، ولكن القصد هو محاولة فهم وتحليل موقف اتخذته جماعات معينة ويحتاج الي تفسير. خامسا: تورطت عناصر رجعية ومتخلفة في التنديد -مسبقا- بمظاهرات يوم الجمعة، لأن من سيقومون بها ويشاركون فيها هم »العلمانيون والليبراليون والكفرة والملحدون«»!!« من وجهة نظر تلك العناصر.. وبذلك يسقط القناع عن هؤلاء الذين يزعمون انهم تعلموا التسامح واحترام الخلاف والرأي الآخر.. وهكذا قدم اصحاب لائحة الاتهامات المذكورة اكبر دعاية مجانية »للعلمانيين والليبراليين والكفرة والملحدين« الذين تظاهروا بالملايين من الاسكندرية الي اسوان! سادسا: الذين كانوا يدعون الي مظاهرات طوال الاسابيع والشهور الماضية، بمناسبة أو بدون مناسبة.. تذكروا فجأة، هذه المرة، ان التظاهر »يؤثر علي السياحة« والاستثمار والاقتصاد ويعطل حركة التنمية«! سابعا: جاءت مظاهرات الجمعة الماضية ردا علي الذين يحاولون الإيهام بانهم القوة الوحيدة في الشارع السياسي القادرة علي حشد أعداد ضخمة من المتظاهرين، وانه بدونهم يصعب حشد.. مجرد مئات من هؤلاء المتظاهرين.. وجاءت مظاهرات الجمعة ردا علي النزوع الي التعالي والغطرسة، ومحاولة احتكار القرار بالتظاهر أو عدم التظاهر تطبيقا لنظرية فاسدة عن »الحزب الأم« الذي يملك الحقيقة المطلقة ويعرف مصلحة »أولاده«!! ثامنا: تميزت مظاهرات الجمعة 72 مايو بأنها رفعت شعارا.. تأخر رفعه طويلا، وهو »الدستور أولا«. وجاء هذا الشعار في وقت يحاول فيه البعض الترويج لفكرة ان المطالبة بأولوية الدستور قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية تعني الالتفاف علي نتائج الاستفتاء علي بعض مواد الدستور وانقلابا علي الشرعية الشعبية»!!«.. وهنا نلاحظ انه اذا كان هناك من يحاول الوقيعة بين الشعب والمجلس الأعلي للقوات المسلحة.. فانهم هؤلاء الذين يشككون في نوايا المطالبين بأولوية الدستور. وهؤلاء يتجاهلون، عن عمد، ان الدستور هو التشريع الأساسي الذي يسمو علي ما عداه من تشريعات أخري، وان الدستور هو الذي ينشيء السلطات العامة - السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية - أي هو الذي ينشيء سلطة مجلس الشعب ويضع عنوانا لمؤسسات هذه السلطات ويحدد أدوارها. وليس من المعقول ان تنشيء سلطة أدني.. سلطة أعلي.. ويتغاضي هؤلاء عن حقيقة ان الدستور هو العقد الاجتماعي الذي ينظم مختلف جوانب الحياة في أي مجتمع، ويضع أسس ومقومات الدولة واختصاص كل سلطة، وحدود العلاقة بين كل منها، كما يضع الخطوط العريضة للتشريعات التي ينبغي ان تتوافق مع نصوص الدستور.. ومن هذا المنطلق تأتي أهمية الدستور بالنسبة للمواطنين جميعا، حكاما ومحكومين.. والدستور يعبر، في مجمله، عن ارادة الشعب، بينما تصدر القوانين تعبيرا عن إرادة ممثلي الشعب. ومن الطبيعي ان تغلب إرادة الشعب علي إرادة ممثليه. وقد عرفت مصر النظام الدستوري منذ صدور اللائحة التأسيسية في 7 فبراير عام 2881، وكانت بمثابة قانون أساسي -دستور- يجعل الوزارة مسئولة أمام المجلس النيابي المنتخب من الشعب. وكانت تلك اللائحة التأسيسية نتيجة طبيعية للثورة العرابية. كذلك كان دستور 3291 من منجزات ثورة 9191 الكبري. وبقي ان نضع دستور 1102 كثمرة طبيعية لثورة 52 يناير لكي نقرر علي أساسه أي نظام سياسي نريد وأي برلمان.. نريد..، وأي رئيس نريد. كلمة السر الآن هي: الدستور الديمقراطي لدولة مدنية حديثة.