كنت مراهقا صغيرا فتي صغيرا عندما سمعت لأول مرة عبارة : »أن فلان هذا يحارب طواحين الهواء مثل دون كيشوت».. كيف هي »حرب طواحين الهواء» تلك؟! وماهي هذه الطواحين؟ ومَن يكون السيد دون كيشوت ذاك؟!.. تلك هي الأسئلة التي عربدت في رأسي وقتها وحرضتني علي البحث في كل اتجاه.. غني عن البيان أن وقت صباي لم تكن شياطين الأنترنت موجودة، كما لم يكن الأستاذ »جوجل» قد ولد ولا اكتحلت عيناه بنور الدنيا بعد. بقيت مشغولا، ربما لشهور، بالأخ »دون كيشوت» (من دون أن أعرف طبعا أن كلمة »دون» ليست اسما، وإنما هي في اللغة الأسبانية لقب تفخيم مثل »بيك» و»باشا»،وخلافه).. ثم أهدتني الصدفة السعيدة كتابا ضخما، ترددت قبل أن أتوكل علي الله وأشتريه ببضعة قروش (كثيرة وقتها) من صاحب فرشة كتب علي »سور الأزبكية»، صار بالزمن صديقي (رحمه الله). قلت في الفقرة السابقة أنني ترددت قبل شراء الكتاب، والسبب أنني اشتبهت في العنوان الذي يزين غلافه، إذ كان »دون كيخوتة»، وليس »دون كيشوت»، لكني في النهاية مشيت وراء حدثي ودفعت القروش الكثيرة للبائع، ولم أطق صبرا حتي أعود للبيت فجلست علي الرصيف أقرأ كلمة المؤلف المكتوبة علي الغلاف الخلفي للكتاب، قبل أن أتجول كثيرا بين صفحاته.. وفهمت أن المؤلف (الدكتور عبد الرحمن بدوي) ليس كذلك ولكنه مترجم هذا السفر إلي العربية (ضمن كثيرين قبله وبعده) عن الأسبانية مباشرة، ونشره في العام 1965. إذن تلك كانت بداية معرفتي بحكاية حروب طواحين الهواء العبثية التي نسجها في روايته الخالدة »دون كيشوت» أديب أسبانيا العظيم ميخيل سرفانتس (1547 1616)، ومن يومها استقرت في ضمير الإنسانية كأمثولة تنطق بحقيقة أن البراءة والنوايا الحسنة وحدها لاتكفي، بل قد تكون ضارة وقد تودي إلي التهلكة إذا غاب عن صاحبها الوعي والعلم والثقافة. أما الملخص (المخل جدا) للرواية، فهو أن بطلها »دون كيشوت» رجل ميسور الحال، لكنه ريفي يعيش في إحدي قري أسبانيا غارقا في عالم خيالي ساحر صنعه من قراءاته المحصورة فقط في قصص وحكايات الفرسان القدماء الذين فتنوه وبلغ هوسه بهم أن قطع تماما كل علاقة له بالواقع المعيش، وفي لحظة قرر صاحبنا هذا علي رغم ضعف وهزال جسده الشديد أن يقلد هؤلاء الفرسان، خصوصا ذلك النوع الذي تقول الكتب أنهم كانوا يزرعون الأرض تجوالا وحركة لاتتوقف، ولا عمل لهم أو هدف إلا أن ينشروا العدل ويدافعوا عن الحق وينصروا الضعفاء ويحاربوا الشر والظلم حيثما حلوا وأينما قادتهم رحلاتهم التي لاتنقطع. باختصار.. أعد دون كيشوت العدة لتنفيذ قراره، فجهز للرحلة الطويلة فرسه الذي ينافسه في التعب والهزال، وسلح نفسه بدرع معدنية بائسة واستخرج من ركن قصي في بيته سلاحا قديما باليا، واعتمر خوذة وحمل رمحا وبدأ رحلته المقدسة في أرض الله الواسعة بعدما أقنع فلاحا غلبان من جيرانه يدعي »سانشو» أن يكون تابعه ورفيقه في طريق كفاحي طويل يعرف بدايته، لكنه لايدري أين سينتهي ولا متي!! سار الرفيقان، القائد »دون كيشوت» والتابع »سانشو»، بغير خطة ولا دليل، يداعبهما أمل حلو أن يعثرا علي علي أهداف نبيلة يحققها الفارس الجديد الذي اعتبر نفسه رسول العناية الإلهية لنشر الخير في الدنيا، وقبل أن تأخذهما الرحلة بعيدا جدا عن موطنهما، لاحت أمام القائد المزعوم أول أهداف حروبه الوهمية.. كان الهدف مجرد طاحونة هوائية، لكن الوهم والجهل وطول الغربة عن واقع الحياة صوروا له أنها »شيطانا رجيما» يضرب الهواء بأجنحته علنا ومن دون حياء. ومن دون جدوي، جاهد الفلاح الغلبان »سانشو» لكي يقنع قائده المغوار بأن ما يراه ليس شيطانا ولا شرا وإنما مجرد »طاحونة» بريئة ومفيدة للناس، غير أن دون كيشوت أبي وعاند وركب دماغه الفارغ وذهب فعلا يضرب برمحه »ريش الطاحونة» وهي تدور، فقذفته هذه الأخيرة بقوة وأطاحت به فسقط علي الأرض مضعضعا.. فهل تعلم أو فهم شيئا ؟! أبدا، بل استمر يدخل ويخرج مهزوما من حروب ومعارك عبثية، لم يكسب منها شيئا سوي البهدلة وقلة القيمة.