كان أول لقاء بيني وبين "دون كيخوته" -أو "دون كيشوت"- في فترة الثمانينيات، حيث كان يُعرض مسلسل "رحلة السيد أبو العلا البشري"، وكنتُ مُنبهراً بالتترات، والتي كان أول ما يظهر منها صورة مهيبة لفارس نحيل يُمسك برمحه، ويركب فرسه، وبدت لي الصورة أسطورية بحق، وخصوصاً مع صوت "علي الحجار" العذب، وهو يغني "ماتمنعوش الصادقين من صدقهم"، ومع تمثيل "محمود مرسي" العبقري لشخصية الرجل المشاكس "أبو العلا البشري".. التصقت في ذهني واحدة من أروع الشخصيات الإنسانية الأصيلة؛ شخصية الرجل العادي، بلا قدرات خارقة، لكنه يقرّر محاربة الظلم، والفساد، والنذالة، بكل ما أوتي من قوة، وبرغم صراخ البعض بأنه يمشي في اتجاه خاطئ. بعد سنوات قابلتُ نفس الصورة على غلاف رواية ضخمة مكوّنة من جزأين، وشعرتُ بنفس القشعريرة تزحف على مؤخرة عنقي، ثم قرأتُ بعدها أن المسلسل الذي كنتُ -وما زلتُ- منبهراً به مقتبس عن رواية "دون كيخوته" هذه! إذن فتلك التحفة المرئية تقابلها تحفة أخرى مكتوبة، وأكثر ثراءً وخصوبة بما يناسب العمل الأدبي ومقوّماته. الرواية تُجبرك على التفكير، والمقارنة، وربما ستخرج منها بعدة ملاحظات مُدهشة بخصوص الحياة عموماً، ونموذج "دون كيخوته" خصوصاً. إنه نموذج شائع جداً، وشديد الخصوصية والتفرّد.. نموذج نقابله كل يوم، وننفر منه بطبيعتنا، فنحن لا نريد لأحد أن يتدخل في مشاكلنا أو يحلّها لنا.. فليتكفل ذكاؤنا أو حمقنا في إنهائها أو تصعيدها.. لا يهمّ. الواقع أن ذلك النموذج هو ما يحقق بعض التوازن في الحياة؛ فلو لم يوجد لانعزل كل واحد منا في جزيرة بمفرده غير آبهٍ لما يحدث حوله، مردداً المثل الشهير "أنا ومن بعدي الطوفان". يقودني التفكير لمنطقة أخرى أكثر شمولية واتساعاً، وفي رأيي أن قيمة العمل الأدبي الأصيل تنبع من هذه النقطة؛ فهو يتماسّ بعمق مع العديد من الانحناءات في الحياة، معي، أو مع غيري. مؤلف مسلسل "أبو العلا البشري" هو كاتب السيناريو الراحل "أسامة أنور عكاشة". إنه صورة مصغرة من "دون كيخوته" يريد أن يسلك منهجاً مختلفاً في الدراما. إنه مهموم بقضايا المجتمع المصري والعربي، يناقش انتصاراته وانكساراته بكل ما أوتي من قوة، لكنه -في النهاية- فرد واحد أمام جيش من المعارضين الذين يحاولون دفعه ناحية اتجاه آخر؛ حيث تسود الغوغائية، وفساد الذوق، وضحالة الثقافة، وتسطيح المجتمع إلى تيمات مقزّزة تتكون من الجنس، والتفاهة، والغباء المركّب، ويبدو أن نفس الأمر كان يواجهه "دون كيخوته"، ومن ورائه مبدعه" ثربانتس". الطريف أن "ميجيل دي ثربانتس" كان غزير الإنتاج بشكل كبير، وتنوعت أعماله ما بين القصص الطويلة والقصيرة، والشعر، لكن تظل "دون كيخوته" تحفته الصادقة، التي توضع مع نماذج "هاملت"، و"فاوست" كما يقول المفكر الراحل "عبد الرحمن بدوي" في ترجمته لهذه الرواية. كان" ثربانتس" -مثل "دون كيخوته"- تعساً لم يحقق ما يريده في الحياة؛ دخل الحرب، وقاتل بشجاعة، وأُصيب بشلل في يده، وكان ينتظر أن يأخذ وساماً، لكنه أُخذ أسيراً بدلا من ذلك، وعاش سجيناً لسنوات رافضاً أن يتدخل الملك "فيليب" لإخراجه، حتى جمع له أحدهم مالا وأخرجه. في ذلك العصر كانت قصص الفروسية ومغامرات النبلاء هي السائدة، حيث الأشياء مزيفة، وغير حقيقية؛ الادّعاء، والكذب، وقلب الحقائق كانت سمات ذلك العصر المضطرب. من يمتلكون ربع موهبة "ثربانتس" يصعدون، بينما هو يقبع في الظلّ، معرَّضاً لسهام الحاقدين الذين يعرفون قدره، ويخشون انطلاقته.. تضيق به الحال حتى يصل به الأمر إلى أن يكتب رسائل للفتيات اللاتي لا يعرفن الكتابة مقابل بعض المال! كانت روايته "دون كيخوته" صرخة إذن ضد ذلك العصر.. كتبها، ووضع فيها خلاصة حياته وخبرته وموهبته. "دون كيخوته" الرجل العجوز الذي تجاوز الخمسين، والذي يمتلئ عقله بحكايات الفرسان، وقصصهم الغريبة، ومغامراتهم الممتعة وسط الجبال والصحاري، يقرر أن يدفع الظلم على طريقته، والحصول على لقب "فارس"؛ وهذا لأنه يصدّق ما يقرؤه عن حكايات هؤلاء الأبطال المغاوير. يخرج "دون كيخوته"، ومعه رفيقه "سانشو" العاقل، الواقعي الذي يعرف أن الحياة أقسى مما يتخيل صاحبه هذا! "دون كيخوته" رجل ضامر، ضعيف، لا يمتلك من مقومات البطولة شيئا، فلماذا يغامر ويخرج من قريته البسيطة الآمنة معرّضاً نفسه للخطر؟ هل يريد أن يكون بطلاً مثل هؤلاء الفرسان حقاً؟ أم إنه يبحث عن معنى لحياته الضائعة، وخاصة أنه وحيد، فلا يجد غير الكتب، والروايات الخيالية يحشو بها عقله! الواقع أن "ثربانتس" كان يسخر من بطله المفضل -وهو هنا يسخر من نفسه أيضاً- وفي نفس الوقت يحنو عليه، فهو رجل نبيل يريد تغيير العالم، وتخيّله من وجهة نظره هو! فالمرأة القروية "دولثينيا" تتحول في عقله إلى امرأة نبيلة يحبّها من بعيد، وتنزل في نفسه كنموذج محترم يستحق أن يفديها بحياته! وقطعان الخراف يراها جحافل من الجيوش الجرّارة، طواحين الهواء هي عمالقة مردة يناوشها بسيفه في عناد يستجلب الضحك، ويُكسبه منا الاحترام والعطف في نفس الوقت، بينما تتحول النُزُل العادية التي تتناثر على الطرق لقلاع وقصور تمتلئ بالفرسان! إنه يتمّ تنصيبه كفارس في إسطبل للخيول، والكل يسخر منه، لكنهم لا يبدون هذا بل يتعاملون معه كما يريد هو، وكأنهم يجدون فيه حكاية طريفة تغيّر الكثير مما تعودوا عليه، وهو يصدّق كذبهم هذا ويستمتع به، ويواصل مسيرته النبيلة من أجل أهداف أكثر نبلاً! لكن العالم أقسى مما يتخيل هو، ومن خلال رحلة طويلة، مرهقة، متعبة من المغامرات، والحكايات، يتساءل "دون كيخوته" على فراش الموت إن كان الخطأ فيه، أم في المجتمع أم ماذا؟ إنها حيرة رجل يبحث عن معنى لحياته، حتى وهو يموت! وربما كانت هذه حالة "ثربانتس" نفسه"؛ فالجزء الأول من رائعته يُطبع عشرات المرات دون أن يتغير شيء في حياته للأفضل. ويقوم بتأليف الجزء الثاني؛ لأن أحد اللصوص الغوغائيين -ممن حاربهم مراراً في حياته، وفي روايته- قام بتأليف الجزء الثاني بدلاً منه مستغلاً ذلك النجاح الفائق! مما يجعله يكتب الجزء الثاني، ليخرج أكمل، وأجمل من الأول. يموت بعد قليل، مغموراً، مجهولاً، مثل عشرات الشخصيات التي تحاول تغيير قدرها، وتغيير المجتمع، وقد تنجح في تحقيق هذا أو قد لا تنجح؛ المهم أم تتفق البدايات في نبل المقصد، وتأدية الرسالة، مهما صار العالم وحشياً، وجاهلاً، وحتى لو اختلفت النهايات!