يستيقظ كل يوم منهكاً.. لم يتمكن حتي من أن يبلل وجهه الشاحب من التعب بقطرات من الماء لتساعده علي الاستمرار في عمله الصعب.. عمره لا يتعدي ال 10 سنوات.. لكن العبء الذي حمله منذ نعومة أظافره جعله كأنه رجل بلغ من العمر عتيا.. لا يعرف كلمة عيد.. أو إجازة.. أو حتي راحة من التعب.. هؤلاء هم الأطفال الذين يعملون منذ أن تعلموا المشي.. أعين المارة تراقبهم في كل دقيقة ولحظة في ورشة ميكانيكا أو بقالة صغيرة أو محل عصير أو شيال أو سائق » عربة كارو ».. منهم من يعمل وهو يدرس في مدرسة صغيرة والأغلبية لم يكتب لهم النجاة من بحور الجهل والظلمة.. حرموا من طفولتهم وأغرقوا براءتهم في وحل أعمال شاقة لتوفير دخل بسيط لأسرهم التي تعاني من ظروف اقتصادية قاسية أو ينتمون إلي أسر تحجرت قلوب الأب والأم فيها.. دموع حبيسة لهؤلاء الأطفال تخرج يوميا في هدوء وسكون حينما يرون أقرانهم من الصغار وهم ينزلون من أتوبيسات المدارس أو من يتنزه مع أسرته.. » الأخبار » قامت بجولة في الشوارع والأزقة لرصد الواقع المأساوي لهؤلاء الأطفال وناقشت الخبراء حول آثار إقحامهم في أعمال شاقة علي تكوينهم النفسي ونظرتهم للمجتمع وسبل إنقاذ براءتهم. آخر تقرير صدر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء كشف أن حجم عمالة الأطفال في مصر وصل إلي حوالي 3 ملايين ونصف المليون ومعظمهم لا يتعلم ولا يذهب للمدرسة بل يكتفي بالعمل فقط.. أبو قلب صغير هناك في المعتمدية.. حواري وأزقة.. امتلأت بعشرات الورش التي تضم قصصا وحكايات لأطفال وجدوا أنفسهم مجبرين علي العمل في سن مبكرة.. في إحدي تلك الورش المخصصة لإطارات السيارات.. تدق فيها عقارب الساعة تشير للواحدة ظهرا.. يحضر الطفل أبو بكر بالصف الرابع الابتدائي من مدرسته بعد قضاء يوم شاق بين جدران فصله ووسط أقرانه من التلاميذ بين المواد الدراسية المختلفة المقررة في جدوله.. تدق أجراس المدرسة لتعلن انتهاء اليوم الدراسي.. يخرج ذلك الطفل الذي اشتهر من بين زملائه ب » بكار» يحمل حقيبته المتآكلة خلف ظهره ويذهب إلي الورشة.. ليبدأ يوما آخر من المشقة في » نفخ كاوتشات» السيارات أو تصليح » كاوتشات » أخري.. 10 جنيهات هو المبلغ الذي يتقاضاه يوميا من الورشة.. بكار يريد أن يصبح طبيبا حتي يتمكن من علاج والده من مرض السكر الذي يعاني منه منذ فترة طويلة. سيد فيشة وعلي بعد خطوات من ورشة بكار كان صديقه » سيد فيشة » يقف شارد الذهن ينظر إلي أقرانه الصغار وهم يلعبون ويلهون بشارع المعتمدية، الدموع كادت تسيل من عينيه الصغيرتين، أراد خلع ملابسه المشحمة » العفريتة » لخطف دقائق مع هوايته القديمة إلا أن الأسطي علي الكهربائي ناداه تعالي يا » زفت يا فيشة » فك البطارية من العربية، فقال له بانكسار » حاضر يا اسطي انا جاي اهو ». اقتربنا منه وفتح قلبه لنا وحكي مآساته التي بدأت منذ عامين عاقبني والدي عندما فشلت في اجتياز الصف الثاني الابتدائي، فأخذني من يدي وسلمني لصديقه الأسطي علي وقال له علم سيد الصنعة وأضاف فشية أنا مش بحب الشغل أنا نفسي أرجع أذاكر وألعب مع أصحابي في المدرسة زي زمان، الأسطي بيضربني لو غلطت في الشغل أو اتأخرت عليه في حاجة، كل يوم أشاهد أصدقائي الصغار وهم يحملون الحقائب أثناء عودتهم من المدرسة وأضاف » فيشة » أنه يعمل لمدة 12 ساعة يوميا مقابل 50 جنيها أسبوعيا وانتظر يوم الإجازة الأسبوعية الأحد لأتنفس الصعداء بعيدا عن الزيت والشحم وتعنيف الأسطي لي وقال سيد : أشعر بضيق بداخلي عندما يناديني زملاء الدراسة بالأسطي فيشة واندم علي فشلي بالمدرسة. بلية الميكانيكي طفل صغير، تناسي طفولته، ترك مدرسته وذهب بأقدامه إلي ورشة صغيرة لتعلم الميكانيكا حتي لقب بالأسطي » بلية الميكانيكي » أشهر صبي ميكانيكي بالمنطقة يعتمد عليه الجميع في كشف العيوب الفنية وإصلاحها في الحال.. أنه محمد حسين ابن العشرة أعوام، يخرج من منزله المتواضع كعادته يوميا في العاشرة صباحا يقصد عمله وبداخله شعلة من النشاط والهمة يفكر في الحصول علي أجره اليومي البسيط لمساعدة والدته وشقيقتيه الصغيرتين لتعويض ما حرم منه واستكمال رحلتهما الدراسية، وبمجرد أن تطأ قدماه ورشته الكائنة بشارع المعتمدية تجد الجميع يلقي عليه التحية والسلام وكأنه يبلغ من العمر أرزله، تحدثنا مع الأسطي بلية »محمد » وحكي قصة حياته وعشقه للعمل وقال: توفي والدي منذ ثلاثة أعوام وكان يعمل أرزقي » محار » وقتها كنت بالصف الأول الابتدائي ولدي شقيقتان، ضاق بنا الحال وقررت الهرب من المدرسه لتدبير النفقات اليومية لأمي ولأخواتي والذهاب للعمل مع الأسطي ناصر الميكانيكي الذي احتضنني داخل ورشته وعلمني الصنعة. كان يقسو عليّ أحيانا لتعلم المهنة وكنت استحمل ذلك مقابل 20 جنيه في اليوم الواحد وكنت آنذاك أصغر ميكانيكي سيارات بالمنطقة، تعلمت فك وتركيب مكونات السيارات حتي أصبح الأسطي يعتمد عليّ في كثير من الأمور. واستطرد بلية قائلا : حرمت من نعمة التعليم إلا أنني أقاتل وأكافح في عملي حتي يتمكن أخوتي الصغار من استكمال دراستهم البائعة الصغيرة واصلنا جولتنا بمنطقة وسط البلد.. جاءت البداية مع طفلة لم تتعد ال 8 سنوات تبيع الورد لقائدي السيارات أو حتي المارة علي أقدامهم.. تجذبهم تارة بكلماتها العذبة التي تتلخص في أن أباها مات منذ عام وهي التي تنفق علي أمها وأختيها الصغار.. وتارة أخري تجذبهم من خلال جريها خلف من يسير علي قدمه أو قائدي السيارات في الإشارات.. عندما سألناها عن اسمها فكانت الإجابة صريحة وواضحة » ما أعرفش اسمي ».. » بس انا عندي 8 سنين وبصرف علي امي وإخوتي ».. طفلة بريئة تبيع الورد وربما لا تشم رائحته من كثرة ما تتعرض له من قسوة الحياة... وفي لحظة وقفت لها سيارة أعطت لها سيدة » النصيب » وأسرعت دون أن تأخذ الوردة فجريت خلفها البائعة الصغيرة بعد أن وقفت السيارة في إحدي الإشارات وقالت لها » انا ما بشحتش.. أنا ببيع ورد ».. قالت تلك البائعة أن اختيها الصغار مريم ومنال يحتاجان إلي مصاريف كثيرة خاصة بعد أن توفي والدها.. وبعد أن قالت هاتين الكلمتين أسرعت بعيدا عنا وهي تقول » انا همشي علشان لقمة عيشي ». طفل يبيع العصير منشأة ناصر.. تلك هي المنطقة التي وقف بها عادل ذلك الطفل الذي يبلغ من العمر 10 سنوات.. وقف وأمامه عربته الصغيرة التي يبيع من خلالها عصير البرتقال للمارة أو سائقة التوك توك والميكروباص.. انهمك في عصر البرتقال ووضعه بين ألواح الثلج.. وكان ذهنه شاردا عندما نظر إلي أوتوبيسات المدارس التي تمر في كل لحظة أمام عينه البريئة وهو يسأل نفسه » هو انا ليه مش زي الأطفال دي ؟ ».. قال إن أباه مريض فيضطر أن يقف مكانه علي عربة البرتقال حتي لا يتأثر منزلهم الصغير والذي يضم أسرة كبيرة بمرض الأب.. وعلي الرغم من إعاقته التي أصابته في قدمه اليمني لكن هذا لم يمنعه من العمل بشكل يومي ليستطيع أن يوفر نفقات علاج أبيه وإخوته الصغار. الأسطي وفي شارع أحمد سعيد حيث الورش المنتشرة علي جانبي الطريق وتواجد العشرات من الأطفال الذين أطلقتهم أسرهم ليعملوا منذ سن مبكرة.. وفي إحدي تلك الورش الخاصة » بالكاوتش » لفت نظرنا طفلا صغيراً يحاول رفع أحد »الكاوتشات » ليجلس عليها إلي جانب » الأسطي » صاحب الورشة وزملائه الصغار لتناول وجبة الإفطار لكي يستطيع أن يكمل باقي عمله طيلة اليوم.. وفجأة انتفض ذلك الطفل بعد أن أعطاه » الأسطي » إشارة ليذهب لسيارة ما تقف علي الجانب الآخر بدون أن يستكمل باقي وجبة إفطاره. اقتربنا من ذلك الطفل وهو يعبر الشارع ولكنه خاف أن يقول اسمه من البطش الذي سيراه.. وأكد ذلك الطفل الشارد الذي يصل عمره 11 عاما » أنه لم يتعلم ويعمل في هذه المهنة ليوفر في نهاية الشهر نفقات يعطيها لوالده بدلا من أن يتعرض للضرب ومنه خاصة أن والدته متوفاه.. وأن شقيقيه القريبين منه في السن يعملان في مهن أخري أيضا حتي لا يتعرضون للأذي من والدهم. النباش وقف أحمد.. ذلك الطفل الذي امتهن مهنة صعبة علي عمره الذي لم يتعد ال 9 أعوام وهي النبش في الزبالة.. ففي شارع مصطفي النحاس وقف هذا الطفل ينبش في كل تلال القمامة الموجودة بطول الشارع.. وجلس أبوه علي كرسي وأمسك بيده » الشيشة » غير مكترث بما قد يواجهه هذا الطفل من روائح كريهة أو أمراض دفينة بين تلال القمامة قد تؤثر بشكل أو بآخر علي صحته.. جلس في انتظار ما يخرجه هذا الصبي الصغير ويفرزها أيضا ليبيعها إلي تجار القمامة في منشأة ناصر وغيرها.. وفي حي الموسكي لفت انتباهنا طفل يعمل مبخراتي داخل المقاهي والمحلات، الطفل الصغير لا يتجاوز سبع سنوات، يحمل في يديه مبخرة ووجهه تملؤه البراءة. تبعناه قليلا حتي وصل إلي المقهي وبدأ يبخر المكان ويبتسم في وشوش الجالسين، يعيش يوسف داخل أسرة بسيطة مكونة من 6 أشخاص، أب وأم وشقيقين يعمل من أجل مساعدة والدته علي تربية أخواته وشراء علاج لوالدته التي تعاني من الضغط والسكر، اتحرم الطفل يوسف من اللعب والبهجة مثل باقي الأطفال اتكتب عليه المعاناة والشقي ورغم كل هذا يحاول أن يوفق بين دراسته وعمله قائلا: »انا بشتغل بعد المدرسة وبساعد امي في تربية أخواتي وليا اخويا أكبر مني بسنة بيبيع مناديل وبيساعد معايا، ونفسي الحكومة تشوفنا عايشين ازاي » بائع حلوي لم تبعده قسوة الحياة عن المضي قدما في تحقيق حلمه، لم يستسلم للواقع المر الذي فرض عليه بل جابه ظروفه الصعبة وأصر علي تحقيق حلم دراسته. رغم صغر سنه إلا أنك تجد نفسك تقف أمام مقاتل من طراز فريد، إبراهيم بائع الحلوي يبلغ من العمر 14 عاما يعمل بكل طاقته لتوفير القوت اليومي له ولأسرته قائلا » انا بصحي الساعة 7 اروح المدرسة والساعة اتنين بروح أغير وانزل اشتغل لحد الساعة 10» ويحكي إبراهيم والدموع تملأ عينيه : أعيش داخل غرفة صغيرة لا تتعدي 3 امتار وسقفها يتهاوي أبوابها متهالكة لكن علي كل حال الحمد لله أنا عمري ما ماديت ايدي لحد وبشتغل بالحلال أنا وأخواتي وبنصرف علي أهلنا » وأضاف قائلا » انا نفسي احفظ القرآن وأعيش زي باقي زمايلي وأوفر عيشة كريمة لأمي ». بائع ذرة »بشتغل عشان لقمة العيش الحلال» هذه هي الكلمات التي بدأ بها الطفل إبراهيم حسن صاحب ال 14 عاما والذي يعمل »بائع ذرة» بمنطقة الموسكي فيقول خرجت من المدرسة وتركت التعليم وأنا في الصف الثاني الابتدائي لكي أساعد عائلتي في مصاريف البيت. قال إنه كان يحلم بارتداء البذلة العسكرية ليكون ضابطا في الجيش المصري لكن سوء الحالة المادية لعائلته وأبيه الذي يعمل في نفس مهنته هي التي دفعته لكي يخرج للبحث عن لقمة العيش رافعا شعار »اكل العيش مر» مؤكدا أنه يشعر بالحزن الشديد عندما يشاهد أقرانه يرفعون الحقائب المدرسية علي ظهورهم ويذهبون إلي مدرسته القديمة وفي يد كل واحد منهم »كيس للسندوتشات» وعلي وجوههم علامات الفرح والسعادة. بائع البطاطا »بشتغل علشان اصرف علي نفسي علشان.. نفسي اكمل تعليمي وابقي مهندس » بهذه الكلمات القاسية والمريرة بدأ الطفل م.م حديثه حيث يبلغ من العمر 14 عاما يعيش بظروف مادية صعبة ويسعي ويجتهد في دراسته حتي يحقق أحلامه البسيطة، يعمل بائع بطاطا أثناء النهار، يبدأ عمله من الساعة الثالثة عصرا، يجوب الشوارع بعربة صغيرة يشدها بجسده النحيل، يحاول من خلالها أن يجمع بضعة جنيهات، تعينه علي مصاعب الحياة، خاصة أن والده ووالدته ظروفهم الاقتصادية صعبة، ولديه أخوان آخران، ينتهي عمله في التاسعة مساء، يهرول أثناء عودته إلي البيت لكي يستطيع إنجاز واجبه ومراجعة دروسه قبل أن يخلد إلي النوم لكي يستقيظ مبكرا للذهاب إلي المدرسة. يقول الطفل الهزيل الذي انهكه التعب إن الشغل ليس عيبا، وإن من يتحمل المسئولية منذ الصغر، سيصبح له شأن في هذا المجتمع، وهو يتمني أن يصبح مهندسا، ونفسه يعيش حياة كريمة ويساعد والده ووالدته، وينفق عليهما وينقذ أخوته من التشرد ومن غدر الزمن.. ظاهرة محزنة ناقشنا عددا من الخبراء حول خطورة ظاهرة عمالة الأطفال وسبل التعامل معها. يقول د. أحمد هارون عضو الجمعية العالمية للصحة النفسية إن ظاهرة عمالة الأطفال منتشرة في العديد من الدول النامية إلا أنها بدأت تزداد لدينا في هذه الفترة بسبب الأزمة الاقتصادية والفقر والجهل التي يعيشها الشعب المصري هذه الأيام مما دفع بهؤلاء الأطفال إلي ممارسة العمل بأشكال ونوعيات مختلفة تتنوع ما بين الطباعة والميكانيكا والبقالة والتجول في الشوارع للبيع في الأتوبيسات ومنهم من يعمل في محلات العصائر والعديد من الأعمال التي لا يتعلم منها الأطفال ما ينفعهم في مستقبلهم. تضافر الجهود من جانبها قالت د. سامية خضر أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس إن المشكلة الأساسية تتمثل في التضخم السكاني الذي يترتب عليه معوقات متعددة كتفشي الفقر والجهل مما يدفع الآباء للزج بصغارهم داخل الورش واستغلالهم لتدبير نفقات رغم المخاطر الصحية والنفسية أو الاجتماعية التي يتعرضون لها، وأضافت خضر أن عدد الأطفال العاملين بالشوارع تجاوز 3 ملايين طفل وهذا مؤشر خطير علي المجتمع ويجب للخروج من تلك الأزمة بناء مؤسسات تربوية تهتم برعاية الأطفال والاهتمام بالمنظومة التعليمية خاصة مرحلة التعليم الأساسي كذلك يجب تضافر الجهود بين مختلف الهيئات الرسمية والأهلية للتعامل مع هذه الظاهرة وإصلاح الوضع المادي لهؤلاء الأطفال وأسرهم وطالبت خضر بتفعيل قانون الطفل لحماية الأطفال من بطش الآباء وأصحاب العمل الذين يستغلون الأطفال استغلالا خاطئا لتحقيق المكاسب والزج بهم في الأعمال الخطيرة واستحداث خط ساخن للطفل لتلقي الشكاوي.