لا الاسكندرية اسكندرية، ولا المدينة مدينة، ولا الناس حقيقيون تماما في فيلم المخرج داود عبدالسيد »رسايل بحر« .. لا شيء من لحم ودم، الكل غريب ومغترب في عالم مفكوك الأوصال، شخصيات من الصعب الامساك بها أو تحديد ابعادها ، هي مجرد أسئلة تتصارع وتتلعثم وترتبك في بحثها عن مصيرها، أفكار تتلاطم، رموز ودلالات ومعان تتجاور وتتراكم وتثقل الفيلم الخالي من الحكاية واشكال السرد التقليدية. مشكلة فيلم »رسايل بحر« هي نفسها عناصر تميزه.. هذا الجمال المتعمد والمقصود، هذه القصيدة واللوحة التشكيلية المصنوعة بدقة متناهية. أشياء كثيرة يمكن ان نحبها داخل الفيلم، ننتصر لها وندافع عنها ، لكن أشياء أكثر لا تصل إلي القلب ببساطة.. فيلم بالقلم والمسطرة ، كل »كادر« أشبه بلوحة تشكيلية خاصة في استعراض الأماكن، بنايات الاسكندرية، النقوشات والزخارف في العمارة الرومانية القديمة.. ملاحقة أمواج البحر في ارتفاعها وهبوطها وارتطامها بصخور الشاطيء.. قطرات المطر.. لون الماء.. سيمفونية بصرية لا تخطئها عين، لكن ثمة دائما مسافة بيننا وهذا الجمال.. هل هو الوعي اليقظ.؟ هل هي الدعوة إلي السؤال ومطالبتنا بتأمل المشهد، مصير أبطاله ومصيرنا؟! يهجر يحيي »آسر ياسين« الطب، ومدينة القاهرة، والأهل والناس أو يهجره كل هؤلاء دفعة واحدة.. لا يهم .. ثمة مفارقة لعالم ينهار ، كل شيء يتداعي ، ولا شيء إلا الفرار. يسافر يحيي الي الاسكندرية حيث ولد.. أو يسافر إلي البحر ليبدأ رحلة الميلاد، رحلة البحث عن نفسه واكتشافها وسؤال المصير.. يهجر يحيي الطب بسبب تلعثمه وعدم قدرته علي التواصل مع الآخرين ويختار ان يكون صيادا للسمك.. لا لأنه ماهر في القنص، ولكن لأنه قادر علي الصبر ومشغول بتأمل مصيره.. ساعات طويلة يجلس فيها أمام البحر أو بحثا عن سؤاله.. لا يصطاد يحيي بطريقة تفجير البحر بالديناميت كما يفعل صاحب العمارة التي يسكنها.. هذا الرأسمالي الجشع يريد ان يهدم العمارة الجميلة لبناء مول تجاري تماما كما يصطاد أسماك البحر بالديناميت.. الصيد السهل وسرقة الآخرين والبحر، وهي نفسها الأسباب التي هرب منها يحيي من القاهرة. يمتلك يحيي روح شاعر ويمتلك ، آسر ياسين »وله من اسمه نصيب كبير« حضورا مرهفا وعذبا. أجمل من »رسايل البحر« البحر نفسه هذه الصورة المبدعة التي اسهمت كاميرا أحمد المرسي في صياغتها بشاعرية لافتة.. البحر الغاضب والعاصف والحنون.. البحر الحرية والرحابة.. حين تخلع نورا »بسمة« ملابسها في وسط المركب والبحر يمتد حولها يملأ الشاشة بأكملها، فتلقي بنفسها وسط أمواجه سابحة وكذلك يفعل يحيي.. لحظة حرية ومشهد بالغ الدلالة والجمال، يكتسب فيه الجسد الإنساني معاني متعددة من البراءة إلي الحرية.. هو العري الميلاد، العري البراءة، العري الحرية.. وهي الرسالة التي ربما يبدأ البحث عنها.