حتي سن السابعة عشرة كان اسمها نفيسة وحينما أنجبت ابنها وأطلقت عليه حماتها اسم الشحات أصبح اسمها أم الشحات كان عرسها في الشارع وتشعلق كل أطفال الشارع علي حديد الشبابيك ليروا زفة نفيسة لعبدالعال كانت زفة شديدة الزحام لأن العريس هو أهم شخصية في الحارة فقد كان عبدالعال هو الوريث الوحيد لوالده في عربة الفول والبليلة والتي حولها إلي عربة بليلة و»حلابيسة« .. لم يرد عبدالعال طالباً لصحن بليلة أو صحن حلابيسة، كان عبدالعال يعود آخر النهار مكدوداً متعباً ويلقي بكل ما في جيوبه لزوجته فتضع كل ما أعطاه لها في درج أسفل الكنبة وتأخذ منه بضعة قروش تضعها في يد عبدالعال .. وأنجبت نفيسة ابنها بعد »دوخة« علي الدكاترة فقد امتنعت عن الإنجاب لأربع سنوات فأطلقت عليه جدته اسم »الشحات« وأخذته ودارت به رضيعاً علي أهل الحارة »تشحت« من كل بيت قرش مخروم وتقوم بعمل »عُقد« من القروش لتعلقه أمه في رقبته حتي يجعله الله مبروكاً. وكبر الشحات ولم ترزق بسواه وحينما أخذته إلي المدرسة »الميري« طبخت أرزا باللبن ووزعت علي أهل الحارة تيمناً بدخول الشحات المدرسة رغم حزنها علي أبيه الذي مات شاباً.. وحينما كان يأتي من المدرسة كانت تغسل »المريلة الوحيدة« بسرعة وتضعها لتجف فوق السطوح. ولم يكن الشحات ذكياً بالقدر الذي يجعله متفوقاً.. أحست أم الشحات بعدم تفوق ابنها فكانت ترسله إلي عبدالمجيد الذي يعمل في محل عصير القصب ليساعده في تقشير القصب ويأخذ »شلناً« عن هذا العمل فكانت تعطيه قرشين يشتري بهما ساندوتشات الطعمية الساخنة التي يحبها كل صباح وتضع الباقي في درج الكنبة. وكل ما يتجمع لديها تشتري به حلوي تضعها في نافذة الحجرة وتبيعها لأطفال الحارة الذين تعودوا أن يشتروا منها وأصبحت هذه النافذة مثل أي محل حلوي في الشارع. وأمسكت أم الشحات قطعة حلوي جوز الهند وقطعتها وتأملتها وعرفت مما تتكون وذهبت إلي سوق »العتبة« واشترت »جوز هند« ثم اشترت »كيس سكر« وجربت أن تعمل حلوي جوز الهند فوجدت أن تكاليف الحلوي أرخص بكثير من شرائها جاهزة فأصبحت تصنعها في البيت. كانت أمنية أم الشحات أن يصبح ابنها مثل الأستاذ عبدالله المدرس الذي يعلم الأولاد في البيوت ويأخذ عن كل »طفل« عشرة جنيهات. ولكن الشحات لم يكن غاوي »علام« كما كانت تقول، فأرسلته إلي رمضان الرفا صباح كل يوم جمعة ليتعلم صنعة، ولكن رمضان ضربه لأنه أوقع »بكرة الخيط« في جردل الماء فلم يستمر معه ولكنه ظل يعمل في تقشير أعواد القصب وحينما جرحت يده قالت له: الجرح يقويك.. المرة الجاية تحاسب وربطت يده بقطعة قماش بعد أن طهرتها بمطهر. وقالت: لو ساب الجرح علامة في إيدك كأنها نيشان.. أوعي يا شحات تقول آه.. خليك جدع.. اللي يقول آه يفضل يقول آه واللي يكتم الآه.. يقوي. وظل يعمل في محل عصير القصب حتي انتقل من تقشير القصب إلي مهنة أعلي وهي وضعه في العصارة ليأخذه المعلم ليعطيه للزبائن، وكان الزبائن يعطون الشحات بقشيشاً فقد كان مبتسماً دائماً ويرحب بالزبائن. وآخر الليل يعطي لأمه كل ما حصل عليه فتضع في درج الكنبة الجزء الكبير وتعطي ابنها جزءا صغيرا ليشتري منه إفطاره كل صباح.. وقبل زفاف ابن عمته خرجت معه واشترت له قميصا وبنطلونا للفرح وفوجئ الشحات بأمه تعطيه عشرة جنيهات يوم زفاف ابن عمته وتقول له: نقط ابن عمتك.. إنت كبرت وده واجب.. والنقوط سلف ودين.. عمتك نقطتني يوم ولادتك باتنين جنيه مع إنها غلبانة. وهكذا علمت أم الشحات ابنها أن يقوم بواجباته رغم أعوامه الأربع عشرة. وكانت كل ليلة تحصي ما لديها في درج الكنبة وكانت لديها طموحات رغم قسوة الحياة فقد تكلمت مع صاحبة المنزل الذي تستأجر حجرة فيه أن تمكنها من تأجير السطوح لتبني حجرتين لها وحتي حينما يصبح الشحات في سن زواج يتزوج معها فقبلت صاحبة البيت علي أن تظل تدفع الإيجار وكأنه إيجار الحجرتين وانتقل الشحات من عصر القصب إلي البيع للزبائن ولأمانته الشديدة حينما مرض صاحب محل العصير أوكل للشحات إدارته وشراء القصب وإصلاح ما يفسد فيه. وكان الشحات يعطي لأمه كل ما يدخل جيبه وتعطيه مصروفه ولم يكن يعلم أنها شديدة المقدرة علي ترتيب أحوالهما المالية.. لم يكن يعلم حينما أحب عطيات ابنة صاحب محل عصير القصب أن أمه لديها من المال ما يمكنها من دفع ثمن »شبكة« العروس والمهر.. ولم يكن لصاحب محل العصير سوي هذه الابنة التي ربطتها بالشحات قصة حب.. والتي قبل أبوها هذه الزيجة حينما شاهد أم الشحات تخرج من صدرها عشرين ألف جنيه »لشبكة ابنها« ومهره لعطيات ست بنات المنطقة.. وتزوج الشحات ووزعت أمه أطباق الأرز باللبن كما حدث يوم مولده تماماً وبقي في درج الكنبة ما يكفي لستر أم الشحات.