حتي عهد قريب كان الريف المصري جاذبا مضيافا، ولأسباب اجتماعية، وبيئية، وسلوكية لم يعد كذلك، ففي تلك العهود ورغم صعوبة الانتقالات والسفر وندرة المركبات كان سكان البندر ممن ينحدرون من الريف يحرصون أشد الحرص علي قضاء معظم إجازاتهم طالت مدتها أم قصرت بين أهلهم وأصدقائهم وذويهم، كان الريف جميلا بطبيعته الخلابة وبثرواته الزراعية، دافئا بحنان أهله وحسن تعاملاتهم من إخوانهم من الضيوف. وكان الواحد منا يحلم بقضاء أمتع الأوقات وسط الزراعات الخيرة، وحواراته الودية مع الأجداد والأعمام والأخوال والأصدقاء وأبناء جيله وهم بين الحقول منتشرون يجدون ويعملون ويكدحون، كانت الحقول عامرة بهم، وبجلساتهم تحت أشجار الجميز والتوت، وفي المصليات الصغيرة النظيفة علي ضفاف النهر والقنوات المتفرعة منه، بينما مياه النيل الخالد النقية تنساب بعذوبة وهي حاملة الخير كله لأهل مصر. والآن تبدل الحال، لم يعد الريف كريما ولا مضيافا بل طاردا لأسباب كثيرة منها الاجتماعي ومنها السلوكي ومنها البيئي، إذ تشوهت العلاقات الاجتماعية واتسمت بالأنانية وحب الذات، وتغلب المصالح الشخصية الأنانية علي ما عاداها من قيم ومبادئ، وخاصة بعد رحيل الوالدين، وبيئيا أصبحت مداخل القري والمدن مستفزة وطاردة لمن يرتادها، فقد انتشرت أكوام القمامة بكثافة علي مداخلها، تنبعث منها ألسنة الدخان الثقيل المثير للنفس، بعدما عجزت المحليات عن إيجاد الحلول للتخلص منها بشكل آمن بيئيا، أو استثمارها وتحويلها إلي أسمدة كما يحدث في الكثير من الدول، ناهيك عن السلوكيات غير الودية من الأجيال الجديدة، وخاصة التي رضعت ونمت علي روح الأنانية والسيطرة علي ما تبقي من ميراث الآباء والأمهات. الابن الجاحد تعودت وصديقي الدكتور أن نصلي معا الجمعة، في منطقتي بالهرم أو في منطقته بالمعادي، فهي الفرصة الوحيدة التي نلتقي فيها بعد أن فرقتنا الأيام والحياة والسكن، ولظروف عملنا انشغلنا عن بعض شهورا، فبادرت صباح الجمعة قبيل الصلاة بالاتصال به كالعادة لابلاغه بالصلاة معه بالمعادي، رد علي ابنه الأصغر داعبته ببعض الكلمات التي يحبها، ولكنه لم يعلق أو يرد كما تعودنا معا، وكانت زوجتي بجواري فطلبت أن تتحدث مع والدته لحين انتهاء والده من الوضوء، فكان رده صاعقا : أمي ماتت تلعثمت قليلا ثم قلت: لا إله إلا الله إنا لله وإنا إليه راجعون.. متي وكيف؟ وعلي الفور توجهت إليه لأداء صلاة الجمعة معه، ثم توجهنا إلي منزله، الحزن يخيم علي المنزل اختفت روح المودة والاستقبال الودي الذي كانت الدكتورة زوجته تستقبلني به وكرم ضيافتها المعهودة. حدثني صديقي الدكتور عن الأشهر الثلاثة الماضية والتي كانت من أصعب الأيام في حياتهما الزوجية: لقد فوجئنا بطلب ابننا خريج الطب بأن نذهب معه لزيارة أسره يحب ابنتها وهو مرتبط بها ويحبها، استقبلنا الخبر بالفرحة، وحددنا يوم الجمعة لزيارة هذه الأسرة، وما أن دخلنا البيت وجلسنا مع اسرتها حتي أصبنا بالوجوم وبدا علي وجوهنا حالة من عدم الارتياح ورفض للعروس والأسرة، وفهم الابن وفهمت العروس ، وفي طريق العودة تناقشنا وتحاورنا معا وأوضحنا رأينا ورفضنا الموضوع رفضا تاما، ولكنه أصر علي الارتباط بها، وحاولنا أن نثنيه عن الموضوع ولكن دون جدوي، بل قال: أنا في غني عن الشقة التي أعدتموها لي، وبعد شهرين من الحوار والشد والجذب معا، قالا له: إذا كنت مصرا علي هذا الموضوع أنا ووالدتك غير راضين عنك!. ترك المنزل وانقطعت عنا أخباره ووالدته في حالة جنون لغيابه، ثم علمت والدته من اخواته انه عقد قرانه وتم زفافه عليها دون علمنا، صرخت أمة صرخة مدوية وشهقت شهقة فقدت الوعي بعدها، استدعيت من عيادتي إلي البيت ونقلتها إلي المستشفي حيث بقيت هناك ثلاثة أيام فارقت الحياة بعدها.