تستنفر حواسي عند السفر لثلاث. أولاً لحظة انفصال الطائرة عن الأرض، وبالأخص أرض مصر، فداخلي مازلت أحمل رؤية المصري القديم لوطنه »كيميت« أي الأرض السوداء، هكذا كانت تعرف مصر في العصور القديمة، أي الارضي الخصبة، الطيبة، تمييزاً لها عن الصحراء، ما من بلد يتجاور فيه الوجود والعدم مثل مصر، من هنا كان تقديس الحدود، ما من فرعون عظيم »للأسف أصبح لفظ الفرعون مرتبطاً بالطغيان، مع أن المقصود في القرآن الكريم فرعون واحد، هو فرعون موسي، أما لفظ الفرعون برعو فيعني البيت الكبير، كما نقول الآن البيت الأبيض، فنعني أيضا الرئيس الأمريكي ما من فرعون إلا وكان يذكر أول مآثره وأمجاده أنه حافظ علي حدود مصر، وعند أقصي نقطة في تلك الحدود يضع اللوحات التذكارية.. فكرة الحدود مقدسة في مصر، ليست حدود الوطن، إنما حدود المعبد، حدود الزراعة، وبالذات الزراعة، فتقسيم الأرض يجب أن يُحترم، خاصة المواعيد الخاصة بالري، مصر التي اخترعت الكتابة واكتشفت وجود الخالق سبحانه، اكتشفت للبشرية أيضاً مفهوم الحدود. ولأن المصري منذ أقدم العصور مرتبط بأرضه تماماً، لا يعرف غيرها، فقد اعتبرها مقدسة، وكان أشد ما يمكن أن يصيبه النفي بعيداً عنها، نقرأ توسلات سنوحي أحد كبار رجال البلاط والذي نفاه الفرعون إلي إحدي الجزر في البحر الأبيض، لعلها »كريت«، وماتزال أول أرض تمر بها الطائرة بعد خروجها من مصر، لحظة انفصال عجلات الطائرة عن الأرض (خاصة عند السفر) لحظة أترقبها، وأحاول التمعن فيها. وطيارو مصر للطيران من أمهر الطيارين في العالم فيما يعرف بالتيك أوف واللاندينج، أي الإقلاع والهبوط، عند عودتي من نيويورك العام الماضي، مرت الطائرة بعد إقلاعها بساعة بمجموعة مطبات لم أعرف لها مثيلاً رغم كثرة أسفاري، فوجئت بعد انتهائها بقائد الطائرة يتجه إليَّ مصافحاً، قدم لي نفسه، انه ابن سامي شرف مدير مكتب الرئيس جمال عبدالناصر، كان اللقاء حاراً، وبالطبع استأنفنا الحديث لأن همومنا واحدة، سألته عن المطبات طبعاً، فقال إنها لا تعني شيئاً مع إتقان عبورها، قال إنه حاول الارتفاع لكن الجو كان مزدحماً بالطائرات المغادرة. دائماً تقلع الطائرات بعد الغروب ليبدأ عبور المحيط ليلاً، وهذه أصعب مراحل الرحلة، الماء الأعظم مع الليل، والمجهول. اللحظة الثانية بلوغ الحد الفاصل بين البر المصري والماء البحر وعندما يكون الاتجاه غرباً يتم ذلك فوق الإسكندرية، تتغير المواضع، مرات فوق منطقة المنتزه، هذه المرة من فوق الميناء، رأيت الأرصفة بوضوح، أما السفن المنتظرة فمنتظرة في البحر مثل السمك، بلوغ الحد يعني أنني أفارق الوطن والإلف، وبقدر الإمكان يظل بصري معلقاً مشدوداً إلي امتداد البر، الساحل الشمالي أمامي، مع المدي تندمج اليابسة مع الغيوم، تصبح عناصر الوجود هشة كالسحاب، لا يطول الوقت كثيراً إلا ويختفي البر، الحد، عندئذ يتحول الوطن إلي الذاكرة، إلي الممارسة بدءاً من الأنفاس الحافظة، وحتي اللغة الواصلة، والسعي الحثيث، استوي علي المقعد، الطائرة ستقطع المسافة في اثني عشر ساعة متصلة، منها سبعة فوق الماء الأعظم، أرتب كتبي، وأتهيأ لاختيار المقطوعات التي سأستمع إليها، غالباً إحدي الحفلات النادرة لأم كلثوم، أعظم من شدت في تاريخ الإنسانية، تبتسم المضيفة. »كل دي كُتب..«علي فين؟ علي فين؟ الثلاثاء ليلاً أحتفظ بتوقيت القاهرة أينما حللت، إذا اتجهت غرباً أزيد طبقاً للفوارق، فقط في الذهن، إذا أقلعت إلي الشرق انقص. في نيويورك وطبقا للتوقيت الشتوي يبلغ الفارق سبع ساعات، الثالثة والنصف في نيويورك تعني العاشرة والنصف، إنه موعد وصول الطائرة المصرية، في نفس التوقيت تصل طائرة الإمارات، وطائرة العال الإسرائيلية، المواقف متجاورة، العال ماتزال تستخدم طرازا قديما من الجامبو 747، لابد أنه يتضمن ميزة ما، ولأنني ذكرت أسماء شركات الطيران فلابد من الإشادة بالشركة الوطنية »مصر للطيران« والتي أحرص علي السفر عليها، حتي إذا تلقيت دعوة من أي مؤسسة أجنبية أشترط أن يكون السفر علي مصر للطيران، لا يرجع الأمر فقط إلي دقة المواعيد، وتحسن الخدمة، ولكن علي الرحلات الطويلة خاصة، أخشي التعرض لأي طارئ صحي، عندئذ سأجد من أثق به، الطائرات علي خط نيويورك حديثة، أكثر راحة من شركات خليجية كبري، لاحظت مؤخرا أن أحدها، ربما أشهرها، ضيقت المسافة الفاصلة بين مقاعد درجة رجال الأعمال، كذلك مساحة المقعد نفسه، الدرجة نفسها في مصر للطيران وعلي طائرة البوينج 777 وثيرة أكثر. والمقعد يمكن أن يتحول إلي سرير مستقيم، لم أتمتع بهذه الميزة قط لأنني في الجو لا أنام ليلاً أو نهاراً، ربما أغفو قليلاً، لكنني أستغرق في ذاتي، أقرأ وأصغي إلي الموسيقي عبر جهاز الآيبود في حجم علبة سجائر، بل أرق، غير أنه يحتوي علي ما يتجاوز السنة ونصف من الموسيقي النادرة، منها جزء كبير من مكتبتي الخاصة، وسوف أصفها بمحتوياتها النادرة في مجال آخر، أما التسجيلات الشرقية النادرة فأمدني بها الفنان أحمد جلال الدين الذي استقر في الولاياتالمتحدة وأصبح اسمه معروفا، ليس كدارس فقط، إنما كمطرب جميل الصوت، الرحلة كانت هادئة، كنت مسروراً برفقة السفير ماجد عبدالفتاح رئيس الوفد المصري بالأممالمتحدة، والآن يشغل منصباً رفيعاً، السكرتير المساعد لسكرتير عام الأممالمتحدة، مسئول عن الشئون الأفريقية، كان عائداً من أديس أبابا، رحلة متصلة، تناولنا الغداء معاً ولكن ما غلب علي حوارنا، بل علي الرحلة الطويلة شجوننا الآن، كل من التقيت به في المطار، علي الطائرة يبادر بالسؤال: »مصر علي فين؟« قلق عام، قبل سفري زرت المشهد الحسيني كعادتي قبل وبعد الترحال، خارج المشهد داخله كان السؤال نفسه »احنا رايحين علي فين؟«.. »لغاية امتي« »طيب وبعدين؟«. القلق عام، والإحساس بالاختناق ثقيل الوطأة، وهذا ما يمكن أن يشكل مصدراً غير مسبوق في العنف. أردد »ربنا يستر« في المطار كان ينتظرني صديقي »خالد«، اتصل حديثنا عن الأحوال، الجديد أنني استفسرت منه عن أحوال المصريين المقيمين، الأمور لا تختلف كثيراً عما يجري داخل الديار. بعد منتصف الليل الثلاثاء كيف أحافظ علي معرفتي أولا بأول بما يجري؟، خاصة أنني أكتب تعليقاً يومياً علي رؤيتي لما يجري. يمكنني نقل وجهات النظر التي تدور هنا، لكن هذا يحتاج الي تفرغ لا أمتلكه، الوقت المتاح محدد، والزيارة خاصة جداً، ثم ان المرحلة حساسية، ولابد من تسجيل شهادة عليها، إنها فترة دقيقة قد يتقرر من خلالها مستقبل مصر لمدي لا يعلمه إلا الله. أهم مصادر ما يجري في المحروسة الإنترنت، مواقع الأخبار عديدة، أهمها موقع الصحف المصرية الذي أصله عن طريق شبكة اسمها آرابد يمكن متابعة جميع أقطار العالم العربي من خلالها، الاقتصاد، الصحافة، السياحة، الصحة، جميع المجالات، الصحف المصرية موجودة كلها، بعض الصحف لم أعرف بوجودها إلا من خلال متابعتي هنا، أهم موقع للاطلاع علي الأخبار أولاً بأول »اليوم السابع«، اقرأ الصحف القومية الساعة الخامسة بعد الظهر الثانية عشرة بالتوقيت القاهري أما معظم الصحف الخاصة فتقدم محتوياتها في اليوم التالي، أي يمكن مطالعتها في الثامنة صباحا »نيويوركي« أي الثالثة بعد الظهر »قاهري«. علي الإنترنت بث مباشر لأهم محطة إخبارية عربية في رأيي »الإذاعة البريطانية بي بي سي«، وعدد من الإذاعات وقنوات التليفزيون الأخري. توجد شبكة تليفزيون عربية اسمها »مورو« وتضم حوالي مائتي قناة، معظم القنوات الخاصة موجودة، اضطر الي تحمل إعلانات قناة الحياة لرؤية شريف عامر ولبني عسل، وأنتظر بعدهما يسري فودة وأتابع حوارات خيري رمضان، التليفزيون الرسمي لا أثر له. وإذا كنت لا أراه في القاهرة، فهل سأتابعه في نيويورك؟. بعض القنوات الخاصة تراعي فروق التوقيت فتقدم بثاً خاصاً بعنوان (+7) أي بث يراعي توقيت الولاياتالمتحدة، أول من بدأ هذا الدكتور أحمد بهجت صاحب قنوات دريم، كنت أحرص علي أن أكون في الثالثة عصراً في بيت ابنتي لأجلس ساعتين مشدوداً إلي واحد من أكثر أدبائنا موهبة وقدرة علي الحكي والرؤية، أعني طبعاً إبراهيم عيسي، أحد أعظم الحكائين في تاريخ مصر، أما شجاعته وموقفه فله حديث آخر، غير أنه تسبب في تغيير عاداتي، فمنها أنني أكتب ليلاً، ولأول مرة أضطر إلي البدء مبكراً حتي أجلس مشدوداً في القاهرة من العاشرة ليلاً وحتي الثانية عشرة، توجد شبكة للتليفزيون الأمريكي عليها ألفان وخمسمائة قناة أهمها ال »سي إن إن« و ال »بي بي سي«، أي أن مجموع الساعات التي أقضيها ما بين الإنترنت والتليفزيون بكل أنواعه تتجاوز العشر ساعات، وبعد الإعلان الدستوري الذي رُوِّعت به بعد وصولي بيوم واحد، فلم أعد أعرف للنوم سبيلاً حتي وإن غفوت. متابعاً عبر كل الوسائل وبالطبع الهاتف أحدها مع الأصدقاء، أما عن آثار الإعلان الدستوري علي الولاياتالمتحدة، فأرجو متابعته غداً الخميس في عمودي اليومي »عبور«، لأن الفجر قد اقترب، أي منتصف نهار الاثنين، موعد تسليم اليوميات.