الجدل الفقهي حول الاشكاليات الدستورية التي صاحبت - ولازالت تصاحب - الفترة الانتقالية سببه الي حد كبير هو عدم وجود فترات سياسية انتقالية في النظام الدستوري المصري تسمح للمتخصصين في القانون الدستوري ان يفكروا بعمق في تنظير وتأصيل وتحليل هذه الفترات الدقيقة في حياة الشعوب. وعلي الرغم من حالة الضيق والضجر عند الكثيرين كلما راوا قانونيا او حقوقيا يدعي علما بالشئون الدستورية - وهو شعور انتابني شخصيا - نقول رغم ذلك نحن مضطرون ان نخوض هذه الفترة من خلال تقابل بل وتناطح الافكار المتناقضة لسبب واحد وهو اننا لم نفكر من قبل كاساتذة قانون دستوري بالجامعات المصرية في هذه المشكلات بعمق كاف. علي ان هذه ليست حالة الفقه الدستوري الفرنسي . فعندما شرعت في اعداد رسالة الدكتوراه في فرنسا حول هذا الموضوع هالني كم الكتابات والتحليلات العلمية والمشاكل التي اثيرت منذ الاربعينيات في فرنسا .ويمكن القول ان اول دراسة حول احد الموضوعات التي نتخبط فيها بمصر حاليا وهو السلطة التأسيسية ترجع الي رسالة دكتوراه نوقشت سنة 1900 في فرنسا اعدها الاستاذ لافونتان. علي ان ذلك ليس هو السبب الوحيد في التخبط الفقهي الراهن الذي نلحظه. لان هناك سببا اخر : وهو تطويع وتوظيف المبادئ الدستورية العلمية لخدمة مصالح سياسية وحزبية. مثال ذلك: نظرية الامتداد التلقائي لسير مجلس الشعب في اعماله رغم صدور حكم من المحكمة الدستورية ببطلان القانون الذي قام عليه انتخابه وحكم ثان بالاستمرار في تنفيذ الحكم الاول ووقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية الذي يشكل عقبة علي تنفيذ الحكم. فلا امتداد تلقائيا الا بنص ولا امتداد تلقائيا لعمل جهاز قضي ببطلان الاساس القانوني لوجوده منذ قيامه. والامتداد التلقائي هنا هو طرفة او دعابة تثير الضحك في مواجهة العجز الفقهي الكامل عن التحايل امام الحجية المطلقة للشئ المقضي به. لان المضي في العمل هو انتهاك صريح للالتزام بتنفيذ الحكم ببطلان المجلس الذي ليس بحاجة الي اي اجراء اخر. وليس للادارة هنا كما قيل خطأ اية سلطة تقديرية في تنفيذ او عدم تنفيذ الحكم القضائي البات والنهائي. مثال اخر للاخطاء التي تحدث بلبلة في اذهان المصريين وهو الزعم الكاذب بوجود معاهدة دولية تبيح وجود مجلس انتخابي مبني علي اساس قانون انتخابي باطل وغير دستوري ومقضي بعدم دستوريته. واتحدي مروج هذا الزعم ان يقدم النص المسشار اليه من المعاهدة المشار اليها . ذلك ان حق الشعوب في تقرير مصيرها لا يعني الابقاء علي مؤسسات غير مشروعة مقضي عليها بالبطلان والتسليم بذلك هو عدوان صارخ علي سيادة القانون والدولة القانونية وهو ما تحظره بالفعل المعاهدات الدولية . اما الادعاء بان العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية يبيح لحزب ان يستمر في الحكم من خلال مجلس مقضي ببطلانه انما يعبر عن جهل بالقانون او سوء نية فاضح. فبعد سنوات طويلة من تدريس العهدين الدوليين في الجامعات الفرنسية ومختلف التفسيرات الحكومية الوطنية والدولية لهما لم ار تخريجا من هذا النوع قط الا في مصر - وبالصدفة المحضة قطعا - تخريج خرج علينا به مستشار رئيس الجمهورية للشئون الدستورية والقانونية!. ان موضوع سلطات الرئيس هو المثل الاخير في التخبط الفقهي: اولا: السلطة التنفيذية قد انتقلت للرئيس بكاملها بما في ذلك سلطة تنظيم وانشاء والغاء المرافق العامة للادارة. وكذلك جميع سلطات الضبط الاداري الكافلة لحفظ النظام العام والصحة العامة والسكينة العامة وايضا سلطة اتخاذ اللوائح التنفيذية الكافلة لتنفيذ القوانين بما لا ينطوي علي مخالفتها. ويضاف الي ذلك السلطات الرئاسية المنصوص عليها في المادة 56 من الاعلان الدستوري الصادر في 30 مارس. والتأمل في ومدي وآثار هذه السلطات يجبر اي متخصص علي الاعتراف بان مداها ونطاقها ليس بالقليل ولا بالهين. ثانيا: لا يسعنا ان نسلم بسلطة الرئيس في الغاء القواعد الدستورية الواردة في اي اعلان دستوري كان لان ذلك يعني ببساطة مصادرة السلطة التأسيسية وهو ما يعني ايضا القدرة علي وضع قواعد دستورية او تعديلها . فاذا كان المجلس العسكري له هذه السلطة لسلطة واقع علي رئيس الجمهورية ان يفهم انه سلطة قانونية ودستورية اتت بها الاجراءات الانتقالية التي اتخذتها سلطة الواقع الانتقالية - وهي المجلس العسكري- والتي انتهت بالانتخاب ليعبر به الرئيس من سلطة الواقع الي سلطة قانونية ودستورية لها صلاحيات السلطة التنفيذية المشار لها سلفا بالاضافة إلي الصلاحيات المقررة في المادة 56 من الاعلان الدستوري. ثالثا: هل كان من الافضل ان يحدد الاعلان الدستوري الصادرفي 30 مارس جميع الصلاحيات الكاملة للرئيس؟ بالطبع لا! ولو فعل المجلس العسكري ذلك لاغتصب سلطة الشعب في اقرار الصلاحيات الدستورية للرئيس بالكامل والتي سوف ترد في الدستور الجديد بمجرد العمل به. اذ ان ليس من الجائز لا سياسيا ولا دستوريا ان يصادر العسكري علي صلاحيات التأسيسية باقرار سلطات في اعلان مؤقت قد تختلف عن السلطات التي يقرها او لا يقرها الشعب في الاستفتاء علي الدستور الجديد والذي يطبق بصورة دائمة. ومن الغباء ان نطالب بسلطات دائمة في وثائق مؤقتة. رابعا: بقيت السلطة التشريعية. والظرف المؤدي الي اسنادها الي المجلس العسكري هو عدم قدرة مجلس الشعب علي الانعقاد وممارسة مهامه الدستورية بعد حكم المحكمة الدستورية. ومن الخطير جدا تركيز كل السلطات التنفيذية والتشريعية في ايدي جهاز واحد وهو الرئاسة . والسبب بديهي لاي متخصص في الشئون الدستورية الا وهو ضرورة احترام مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية. فمن المستحيل ان نسلم ان من يملك سلطة التشريع هو بذاته من يملك سلطة التنفيذ لما في ذلك من خطر جسيم علي الحريات العامة. في النهاية من المؤسف ان يسود في مصر الان جو عام من الارهاب الفكري مقتضاه ان ننعت بالسوء - كذبا وبسهولة مشينة وبتعصب غبي - كل من يقول كلمة حق ليست علي هوي الحزب الحاكم . وذلك بقول : انت من الفلول. والغريب ان هذا الاتهام عادة يدار ضد من كانوا مع وضد مبارك ونظامه وهم في ذات الوقت ضد الاساءة للقضاء والاستحواذ علي جميع السلطات دون تداولها.