انطلاق مؤتمر جماهيري حاشد بقنا لدعم مرشحة الجبهة الوطنية وفاء رشاد في انتخابات الشيوخ    المشاط: المشروعات الصغيرة أثبتت قدرتها على تحقيق تحول في اقتصادات الدول النامية    مقتل 12 شخصا على الأقل في اشتباك حدودي بين تايلاند وكمبوديا    الأرصاد: ذروة الموجة الحارة تبدأ غدا الجمعة وتستمر حتى الثلاثاء.. ودرجات الحرارة تتجاوز 40 في القاهرة    موعد انطلاق المرحلة الأولى من تنسيق الجامعات 2025    ارتفاع الأسهم الأوروبية بعد قرار «المركزي» تثبيت أسعار الفائدة    أسعار النفط ترتفع مدعومة بالتفاؤل حول المفاوضات التجارية    قبل 3 أيام من غلق باب التقدم .. وزارة الصناعة تستعرض مزايا طرح مدينة الجلود بالروبيكي    جمال الكشكى: دعوة الوطنية للانتخابات تعكس استقرار الدولة وجدية مؤسساتها    وزير الخارجية يؤكد على رغبة مصر في زيادة حجم التبادل التجاري مع مالي    ويتكوف : قررنا إعادة فريقنا من الدوحة لإجراء مشاورات بعد رد حركة حماس "الأنانى"    مصر تستهجن الدعاية المغرضة التي تستهدف تشويه دورها الداعم للقضية الفلسطينية    الرئيس الإيراني: نواجه أزمة مياه خانقة في طهران    الزمالك يكشف تفاصيل إصابة صلاح الدين مصدق وبنتايك    بسبب حذائه.. راشفورد يتعرض للسخرية في برشلونة (صور)    وفاة المصارع الأمريكي هوجان    مغربي جديد على أعتاب الزمالك.. من هو أيمن ترازي صفقة الأبيض المحتملة؟    الكويت الكويتي يعلن تعاقده مع سام مرسي    بالأسماء.. الأوقاف تفتتح 8 مساجد جديدة غدًا    الأرصاد: طقس شديد الحرارة غدا نهارا حار ليلا والعظمى بالقاهرة 40    عم الأطفال الستة المتوفيين بدلجا بالمنيا: التحقيقات مستمرة والنيابة لم تكشف عن أسباب الوفاة إلى الآن    السبت أول أيام شهر صفر لعام 1447ه    ترحيل محمد عبد الحفيظ المتهم بحركة "حسم" خارج تركيا    الداخلية تنظم دورة تدريبية في الغوص والإنقاذ النهري    منة عرفة تتألق بعدة إطلالات جريئة في المالديف    إقبال جماهيري كبير على المتاحف والمواقع الأثرية بالإسكندرية    "تناغم بين البرتقالي والأبيض".. منة فضالي بإطلالة صيفية جريئة على اليخت    خالد الجندي: مساعدة الناس عبادة.. والدنيا ثمَن للآخرة    هل يحاسب الإنسان على المحتوى المنشور على السوشيال ميديا؟ أمين الفتوى يجيب    هل لمبروك عطية حق الفتوى؟.. د. سعد الهلالي: هؤلاء هم المتخصصون فقط    للعام الثالث.. صحة الشرقية تتصدر الجمهورية في خدمات القوافل الطبية    "الصحة" تتخذ خطوات للحد من التكدس في المستشفيات    جولة مفاجئة لوكيل صحة المنوفية.. ماذا وجد فى مستشفى حميات أشمون؟    جلسة خاصة لفيريرا مع لاعبي الزمالك قبل المران    «خطافة رجالة».. غفران تكشف كواليس مشاركتها في مسلسل فات الميعاد    رفع 50 طن نواتج تطهير من ترع صنصفط والحامول بمنوف    "قنصوة" يبحث سبل التعاون العلمى والأكاديمى مع جامعة الأصالة بالسعودية    منال عوض: الانتهاء من 75% من المخططات التفصيلية للمدن و86% للقرى    رسميًا.. أرسنال يضم كريستيان موسكيرا قادمًا من فالنسيا    شعبة الدواجن تتوقع ارتفاع الأسعار بسبب تخارج صغار المنتجين    جامعة الإسكندرية تبحث التعاون مع التأمين الصحي الشامل لتقديم خدمات طبية متكاملة    تشغيل كامل لمجمع مواقف بني سويف الجديد أسفل محور عدلي منصور    «المسلماني»: «مالي» لم تبدأ مع الاستقلال عام 1960.. وصاحبة حضارة عريقة وتاريخ كبير    عمرو الورداني: نحن لا نسابق أحدًا في الحياة ونسير في طريق الله    فركش.. انتهاء تصوير حكاية «بتوقيت 28» من مسلسل «ما تراه ليس كما يبدو» (صور)    وزير التعليم العالي يكرم الطلاب الفائزين في مسابقة "معًا" لمواجهة الأفكار غير السوية    غدًا.. "شردي" ضيفًا على معرض بورسعيد الثامن للكتاب    رئيس الوزراء يتابع جهود منظومة الشكاوى الحكومية خلال النصف الأول من 2025    أمين الفتوى: لا يجوز التصرف في اللقطة المحرّمة.. وتسليمها للجهات المختصة واجب شرعي    «سعد كان خاين وعبد الناصر فاشل».. عمرو أديب يرد على منتقدي ثورة 23 يوليو: "بلد غريبة فعلا"    تحليل رقمي.. كيف زاد عدد متابعي وسام أبو علي مليونا رغم حملة إلغاء متابعته؟    تعرف على خطوات تصميم مقاطع فيديو باستخدام «الذكاء الاصطناعي»    الأمم المتحدة: الحرمان من الغذاء في غزة يهدد حياة جيل كامل    تنسيق الجامعات 2025 علمي علوم.. كليات تقبل من 60% ومؤشرات الحد الأدنى للقبول    الرئيس الصيني: نسعى لتعزيز الثقة والتعاون مع الاتحاد الأوروبي رغم الخلافات    «كتالوج»... الأبوة والأمومة    نهاية لمعاناتك.. طرق فعالة للتخلص من الأرق وقلة النوم    بالأسماء.. إصابة ووفاة 5 أشخاص فى حادث تصادم سيارتين بمحور ديروط فى أسيوط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
الطريق إلي الجبهة
نشر في الأخبار يوم 05 - 10 - 2010

»للجبهة استثنائية خاصة، هنا تجري المواجهة، وتتضح الألوان، والحقائق والمواقف، يصبح الانسان مشاركا حتي بالوجود فقط«
عصر ذلك اليوم في صالة تحرير الاخبار فوجئت بالساعي الذي يعمل في مكتب رئيس التحرير يقف امامي قال: الاستاذ موسي عاوزك، بدأ توجسي. المؤسسة تمر بظروف دقيقة، مرحلة تحول بين قيادات مختلفة، وانا منتمي إلي القيادة المقصية اليسارية، لا أحد يعرف عني الكثير، مازلت في البداية. انها المرة الاولي التي أري فيها موسي صبري، اتجهت اليه، مكتبه مفتوح، هذا تقليد لم يتخل عنه قط.. كذلك جميع المسئولين عن التحرير أو الادارة حتي الان.. في ذلك الوقت كان الباب مفتوحا إلي موسي صبري وظل إلي اخر يوم من عمره رحمه الله.
قام واقفا عندما رآني. كان حضوره قويا. صدره مفتوحا يقابل به الدنيا، وكانت ملامحه اكثر ألفة وحميمية من الصور التي رأيتها له مصاحبة لمقالاته، دعاني إلي الجلوس، قال انه يتابعني منذ فترة، منذ ان كان في الجمهورية، وقرأ ما نشر عن كتابي »اوراق شاب عاش منذ الف عام«، سكت لحظة ثم قال:
»انت موهوب، ماذا تفعل في المعلومات«؟
هنا تطلعت اليه صامتا، وعندما قال انه يرغب في نقلي إلي قسم التحقيقات هبط ثقل داخلي، ابديت الوجوم التام، كنت متأثرا بفكرة قرأتها مرارا عن الضرر الذي تلحقه الصحافة بالأدب، الصحافة تحتاج إلي السرعة، الادب يتطلب التأني، التمهل، الاثنان نقيضان، ولأن الادب حياتي الحقيقية، فقد كان العمل بدار اخبار اليوم فرصة لكسب الوقت الاضافي في اتجاه الادب، خاصة ان ما ألحقني به محمود امين العالم عمل لا يتطلب الكثير من الجهد ولا يستغرق الوقت الطويل، اما الانتقال إلي التحقيقات فهذا امر اخر، لهذا كان وجومي، يضاف إلي ذلك سبب آخر وهو ان ردود فعلي بطيئة نتيجة حياء جلبت عليه، وقد كلفني هذا الخجل الكثير في حياتي، خاصة عندما اتخذ ردود فعل مفاجئة بعد فوات الأوان، لسنوات تالية سوف يردد موسي صبري بدهشة في لقاءات خاصة مع آخرين، في اجتماعات التحرير هذه الجملة:
»من المرات القليلة التي فوجئت بها في عملي المهني تردد الغيطاني ورفضه، عادة يتمني ويسعي من يعملون في الارشيف والاقسام المعاونة الانتقال إلي التحرير، لكنه رفض ثم علمت انه ذهب ليتشاور مع محمد عودة...«
الحق انني طلبت مهلة للتفكير، فقال بحدة:
»وهل يحتاج الامر إلي تفكير«؟
ثم قال ان الجريدة ليست مكانا لكسب الوقت، واذا وجد فيها من يمكنه العطاء الافضل فلا مجال للتردد، تطلعت إليه قامعا ما يمكن ان يصدر من انفعال، غير انني كررت طلبي المهلة للتفكير، فانهي المقابلة بقوله: معك مهلة إلي الغد.
مازالت اذكر حجرة مكتبه، كانت متواضعة بالقياس إلي ما تم تأثيثه بعد ذلك من مكاتب فاخرة، بل انها كانت بسيطة جدا بالقياس إلي المكتب الذي اشغله الان كرئيس تحرير لأخبار الادب.
كنت في لحظة حساسة جدا، فلم تكن اوراقي قد اكتملت بعد، ويمكن ببساطة وقف اجراءات تعييني، اي ببساطة يمكنني ان اجد نفسي في فراغ، فعملي الاول الذي امضيت فيه ست سنوات فارقته مستقيلا وانهيت علاقتي به، والعمل الجديد لن ألحق به، لم تكن الظروف وقتئذ تسمح بهذا الترف رغم محدودية المرتب الذي نقلت به إلي دار اخبار اليوم، فقد بدأت علاقتي بالدار من خلال قرار اعارة، اي انتقلت بنفس راتبي الذي كان في حدود العشرين جنيها، وعندما عرف القرار بين اوساط المثقفين سرت الاقاويل انني انتقلت إلي الاخبار براتب ضخم، بخمسين جنيها، وبالطبع كانت هذه الاقاويل تتضمن الغمز واللمز، فمن المنطقي اذا انتقل كاتب إلي جريدة بمبلغ ضخم يمثل راتبه فهذا يعني تقديرا له وللادباء، للادب، لكن المنطق الذي كانت تروج به الاشاعات ان الخمسين جنيها تعد نوعا من الشراء اي شراء المثقفين، ولم يصدق احد قط انني انتقلت بهذا الراتب المتواضع إلا المقربون مني جدا والذين اطلعتهم علي مفردات مرتبي، لقد لاحقتني مثل هذه الشائعات في مراحل تالية من عمري، والغريب انني كنت في الواقع احصل علي اقل القليل نتيجة هذا الخجل الذي جبلت عليه، وفي مرحلة متقدمة، عندما قرر ابراهيم سعده اصدار اخبار الادب واجتمعت به ليتعرف علي ما اطلبه، لم اطلب اي شيء لنفسي، مع اني لو طلبت مضاعفة راتبي وقتئذ لقبل بحكم المهام الجديدة، بل انني بعد ثلاث سنوات نشأت ازمة وتقدمت باستقالتي، جري بيننا حوار سأذكره في موضعه يوما اذا سنحت الفرصة، وفوجئت به يسألني بدهشة.
»انت لا تأخذ بدل مكتب..«؟
سألته بدهشة عن بدل المكتب هذا؟ فاتضح انه من حقي حوالي مائة وثمانين جنيها لمصاريف الضيافة وما شابه، الحق ان الرجل قررها علي الفور، طبعا لو أن آخرا مكاني به تمرس وعنده خبرة كان من الطبيعي ان يطلب صرف المدة السابقة التي لم يتقاض فيها البدل، وأثق انه لم يكن سيرفض، بل كان سيوافق فورا، لكنني لم انطق جري ذلك في تسعينيات القرن الماضي، بالطبع عام تسعة وستين كانت مقاييسه مختلفة، كانت العشرين جنيها تكفي مصاريف بيت متوسط لمدة شهر، الان لا تكفي حساب مقهي في حي شعبي مقابل كوبين من الشاي وحجرين شيشة!. كان اقصي مرتب في الدولة وقتئذ اربعمائة وستة عشر جنيها، ما يحصل عليه الوزير ورئيس مجلس الادارة ولا اداري سر الستة عشر جنيها هذه، كان هذا الراتب وقتئذ مهولا، نسمعه فكأننا نسمع مقدار ثروة نجيب ساويرس الان التي تقدر بالمليارات، كان للمجتمع سقف محدد بصرامة وقتئذ لصالح الاغلبية، اذكر خطابا لجمال عبدالناصر هدد فيه وتوعد الفساد والمفسدين، كان احد المسئولين عن شركة في القطاع العام قد ضبط متلبسا بسرقة خمسة آلاف جنيه!
كان العصر غير عصرنا الان، ومقاييسه مغايرة، جري هذا التغيير في اربعة عقود فقط لاغير، كنت مهددا بفقد وظيفتي الاولي والثانية، وبالتالي يدفعني هذا إلي وضع صعب وغريب في الليلة نفسها مضيت إلي انسان عظيم وصديق فريد هو محمد عودة الذي كان من حسن حظي انني تعرفت به مبكرا، وقد فتح لنا عودة ابواب اماكن عديدة لم اكن افكر حتي في المرور إلي جوارها، مثل دار الاوبرا والمسارح الكبري، والفنادق الفاخرة والمقاهي الحميمة والقري البعيدة والمتاحف المنسية، محمد عودة كان احد ادلتي في هذه الحياة، وبفقده يتجدد يتمي، وتتعمق غربتي، كان يسكن شقته المتواضعة في عمارة الاوقاف بالدقي، والتي لم يغيرها حتي رحيله بعد ان اصغي بعمق، قال علي الفور:
»اسمع، موسي صبري مهني شاطر جدا، وستتعلم منه الكثير، اتبعه ولا تتردد، الصحافة ستضيف إلي ادبك مادمت تمسك بالتوازن..«
الجملة الاخيرة هي ما يعنيني في الموضوع، وكانت اول طريقي إلي جبهة القتال، ولسنوات طويلة سيردد موسي صبري رحمه الله
»تصوروا.. وراح يستشير محمد عودة..«
الجبهة
للجبهة اصداء وتداعيات، عندما اسمع الاسم يبرز معني الحدود، الفواصل، الامام، تعني الجبهة اقصي ما يمكن ان نصل اليه، تعني ايضا اول ما ننطلق منه إلي الآخر المتربص، المواجه، احيانا تتعدد المعاني فمرة من عالم السياسة، حيث تتشكل مجموعة من القوي السياسية وتجتمع علي هدف ما سواء علي مستوي استراتيجي أو تكتيكي، الجبهة تعني ايضا مقدمة الرأس، الواجهة للحضور الانساني، المقدمة هي الاكثر حساسية واذا ارتبطت بالرأس فهذا يعني انها الاقوي والاوهن معا، فالضربة المؤثرة يمكن ان تنال من الجسد كله.
بالنسبة لي تعني كلمة الجبهة ذلك الوضع الذي نشأ بعد هزيمة يونيو، عندما اصبحت خطوط القتال الاولي علي بعد حوالي مائة كيلومتر من القاهرة، قبل يونيو كانت الجبهة بعيدة. حاضرة في الاعلام اكثر مما هي حاضرة في حياة الناس، كان قطاع غزة تحت الادارة المصرية، وكانت اسماء مثل الكونتيلا، وابوعجيلة وأم الرشراش غير معروفة بدقة للمصريين إلا من خلال وقائع عسكرية جرت في الصراع مع اسرائيل، وللاسف فقد جري عزل سيناء عن الوطن الأم منذ بدء الاحتلال الانجليزي لمصر في القرن التاسع عشر، واستمر هذا العزل قائما حتي هزيمة يونيو، لم ينتبه ثوار يوليو إلي ضرورة ملء الفراغ الاستراتيجي الهائل بمشاريع دائمة يمكن من خلالها استثمار ثروات شبه الجزيرة الثرية، حتي يونيو عام سبعة وستين، كان سفر المواطنين المصريين إلي غزة إلي سيناء، يقتضي الحصول علي تصريح خاص من جهات الامن، كان الجمرك له نقطة في مدينة القنطرة شرق الواقعة علي الضفة الشرقية للقناة، وكان ذلك غريبا، فهذا يعني اعترافا من الادارة بأن الحدود المصرية تنتهي عند هذه النقطة، الجمارك لا تقام داخل الاوطان إلا اذا كانت تتعرض لاحتلال عسكري، وهنا استدعي اغنية سيد درويش التي لحنها خلال ثورة 9191 يقول فيها:
»حد يصدق ان الدلنجات
يسافروا لها بباسبورتات«؟
والدلنجات قرية صغيرة في البحيرة بدلتا مصر، كانت سيناء معزولة حتي عام سبعة وستين وخلال الايام السابقة علي يوم الاثنين الاسود، كانت الصحف تتحدث في عناوين ضخمة عن عبور القوات المصرية إلي سيناء، »في كفاءة شهد لها العدو قبل الصديق« كنت منجرفا في الحماس، فلم اتوقف إلا فيما بعد امام هذا التعبير الغريب، فماذا يعني انتقال تلك القوات داخل حدود الوطن من مكان إلي مكان، وكانت صور التحركات منشورة في الصحف، للقوات المتجهة للانتشار في سيناء ردا علي الحشود الاسرائيلية التي تهدد سوريا الحبيبة!
وكما ثبت بعد ذلك بشهادة الفريق اول محمد فوزي، والفريق عبدالمنعم رياض قائد الجبهة الشرقية وقتئذ، فإن سوريا الحبيبة لم تكن في خطر، ولم تكن هناك حشود تهددها، تلك الحشود التي ثبت انها لم تكن موجودة، لماذا ادعي النظام وقتئذ هذه الكذبة الكبري؟ هذا موضوع يحتاج إلي تدقيق وإلي تحقيق تاريخي، فالهزيمة التي ترتبت علي يونيو نعيش تداعياتها حتي الآن.
من الامور الغريبة المتصلة بالجبهة ايضا التي توقفت عندها فيما بعد، ان القيادة المصرية اعلنت انها لن تبدأ الضربة الاولي، وكان ذلك غريبا، فالقيادات لا تعلن عن نواياها، في نفس الوقت بدا هذا المنطق غريبا، الم يسأل احد نفسه: وماذا اذا جاءت الضربة الاولي قاتلة؟ هذا ما جري بالفعل صباح الاثنين، لقد سمعنا وقرأنا التبرير فيما تلا ذلك ان القيادة توقعت الضربة من الشرق فجاءت من الغرب!
امور تثير العديد من التساؤلات وعلامات الاستفهام ولاحل إلا بطرحها مباشرة دون تزويق أو تأثير ايديولوجي مسبق، علي اي حال يمكن القول ان القيادة العسكرية التي تسلمت زمام الامور استوعبت جميع الدروس والنتائج السلبية وحققت معجزة جبارة بالفعل خلال السنوات الست التالية، وقد قدر لي ان اكون شاهدا علي كثير مما جري وذلك من خلال الفرصة التي اتيحت لي للعمل في الجبهة كصحفي، قبل ان ألتحق بقسم التحقيقات الصحفية، وقبل ان اتخصص في العمل العسكري، كنت تواقا للذهاب إلي الجبهة عندما وقعت الهزيمة لم اكن قد التحقت بدار اخبار اليوم بعد، بعد اعلان الزعيم قبوله ارادة الشعب وعودته لتسلم السلطة والعمل علي اعادة البناء العسكري، رحت ابحث عن طريق لأتواجد في الجبهة، كان اسم »السويس« هو الابرز امامي، في ذلك الوقت كنت علي صلة برجل نبيل السيرة رقيق القلب، من الذين أثروا في شخصي كثيرا، وهو امين عزالدين رحمه الله كان قائدا عماليا، ومؤرخا للحركة العمالية وكان قريبا جدا من عبدالناصر، في ذلك الوقت كان امينا للقاهرة في الاتحاد الاشتراكي العربي، التنظيم السياسي الوحيد المعلن في مصر، وقتئذ، كان امين عزالدين احد المنظرين الكبار للاشتراكية الناصرية، وكان صديقا شخصيا لجمال عبدالناصر، قلت له انني اريد التطوع للعمل في الجبهة، انني اريد السفر إلي السويس، طلب مني ان اسجل اسمي في قوائم المتطوعين. وأنه في الوقت المناسب سوف يتصلون بي، جرت حوارات طويلة بيني وبينه، وكان الرجل متأثرا جدا رغم محاولته منطقة الامور، لم يتصل بي احد، وهنا قررت ان اسافر بمفردي، ان اتواجد في الجبهة التي لم تعد عند حدود سيناء، بل اصبحت علي الضفة الشرقية للقناة، اسلحة العدو الخفيفة تطول المدن والقري الواقعة علي الضفة الغربية، كانت العناصر الكامنة في المصريين قد بدأت تظهر خارج الاطر الرسمية، تماما كما جري ليلة التاسع من يونيو، عشرات، مئات تدفقوا إلي المدن الكبري الثلاث، السويس، الاسماعيلية، بورسعيد، كانوا يقدمون المساعدات للجنود الشاردين - وكلمة شاردين من التعبيرات العسكرية التي توقفت امامها كثيرا كان الذين وصلوا احياء إلي الضفة الشرقية للقناة يقعون احيانا كأسري في قبضة القوات الاسرائيلية، وجرت عمليات اعدام علنية علي مرأي من اهالي السويس، اخبرني الكابتن غزالي، الذي سيصبح احد رموز المقاومة في السنوات التالية انه رأي اكثر من مرة، طابور الجنود العائدين، يوقفهم بعض العسكريين الاسرائيليين، يشهرون مسدساتهم يصوبونها إلي الرؤوس يختارون الاعداد الفردية أو الزوجية، جري ذلك علي مشهد من الكافة وكان الهدف معنويا، واثارة الرعب والشعور بالاهانة، ان من شاهدوا هذه الوقائع مازالوا علي قيد الحياة ويمكن توثيق ما عاشوه بأنفسهم، لقد سافرت مرتين، إلي السويس وإلي بورسعيد، لكنني كنت علي الهامش فمن اعرفهم لم يكن لهم دور، كنت مجرد مواطن عادي لكنني اكتشفت ان وجودي في الجبهة يجعلني اهدأ نفسيا وروحيا بعد الهزة العنيفة التي سببتها الهزيمة وكان هذا احد اقوي الدوافع التي جعلتني اسعي إلي العمل في الجبهة مع بدء عملي كصحفي.
من ديوان النثر العربي:
كن سمحا ولا تكن مبذرا
وكن مقتصدا ولا تكن مقترا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.