اليوم لحظة فارقة في التاريخ المصري الممتد، سواء الموغل في القدم، أو القريب، أتمني أن نعيشها ونتمثلها.. منذ آلاف السنين لم يمارس المصريون حقهم في اختيار حكامهم، كانت مقتضيات الدولة المركزية القديمة تقتضي اختيار حاكم قوي من خلال عملية معقدة يشترك فيها الكهنة من المعبد الذي كان له دور كبير، ومن الطبقة السياسية، كانت مؤسسة الحكم قوية، لكنها لم تكن منعزلة عن شعبها، كان الفراعنة مصريين، وكان الفرعون علي عكس الصورة التي سادت الذاكرة الإنسانية، رمزاً للعدالة وللرحمة ورعاية شعبه، ولا يوجد »نصب تذكاري« في مصر أقامه أحدهم إلا ويقسم فيه أنه وفر الخبز والأمن والعدالة للناس، وكان عليه أن يثبت باستمرار أنه قادر علي الحكم، وعلي أداء مهامه. وذلك من خلال اختبار يجري عند بلوغه الثلاثين عاماً في السلطة، لابد أن ينزل في احتفال يسمي »سد« ويصارع ثوراً قوياً ويهزمه، ويظل موضوع السلطة في مصر الفرعونية في حاجة إلي مزيد من الفهم والدرس لانتصار الرؤية العبرانية المعادية للحضارة المصرية وهذا من الأسئلة الكبري في التاريخ، كيف تنتصر البداوة علي الحضارة؟. مرت مصر بأطوار عديدة، عرفت من خلالها الصعود والنزول، والاستمرارية والتغير، إلي أن تولي السلطة فيها العبيد بعد العصر الفاطمي، أي المماليك، ولكن المضمون المصري يفرض نفسه علي هؤلاء الأغراب الذي جاءوا من صحاري آسيا وأصقاع الشمال أطفالاً مختطفين ليصبح بعضهم سلاطين لمصر، لم يكن للشعب المصري دور في اختيار حكامه، صحيح ان الشعب »كان المؤرخون يطلقون عليه العامة والأوباش والحرافيش« يمارس ضغطاً من خلال انتفاضات محدودة للمطالبة بتولي سلطان معين أحبه الناس، وكان العنصر الأول للحب أو الكره هو القدرة علي تحقيق العدل بالنسبة للقاعدة الأعرض من الناس، حدث هذا مع الناصر محمد بن قلاوون الذي عُزل مرتين من السلطة وعاد إليها بضغط الشعب، ولكن العصر المملوكي شهد أعاجيب وأموراً تدخل في منطقة اللامعقول، ولم يقع مثلها إلا في مرحلتي السادات ومبارك، عندما أصبحت الشخصانية هي الحاكمة، في العصر المملوكي تولي حكم مصر رضيع عمره ستة شهور.. ابن الملك المؤيد شيخ حموي.. وفي حقبة أخري تولاها مجنون بالفعل »بلباي« ومرة أخري تولي أحد السلاطين لمدة ليلة واحدة، أما الخليفة العباسي الذي أتي به الظاهر بيبرس ليصبح أداة سياسية فتحول إلي موظف عند المماليك إلي درجة أنه قام بتولية وخلع ثلاثة سلاطين في يوم واحد، وهناك تفاصيل عن وضع الخلافة في مصر تدخل في باب الأعاجيب، أقول هذا لمن ينادون اليوم بعودة الخلافة وكأنها حلم مفقود، انهارت الدولة بعد حكم الأتراك، وبداية الاحتلال العثماني، وعندما جاء نابليون بونابرت إلي مصر كان تعدادها اثنين مليون ونصف المليون، أي ان حوالي ستة ملايين اختفوا عبر مائتي سنة من حكم الخليفة العثماني، ولكن تاجراً للدخان وضابطاً في الجيش العثماني، أدرك مكامن القوة في البلد، وتمكن بدهائه من الصعود إلي الولاية في القلعة، ومن هذا البلد المنهك، الضعيف، الذي اجتاحته العصابات والأوبئة تمكن محمد علي باشا من تأسيس قوة عظمي، عناصرها الجيش والثقافة والصناعة، تحالفت أوروبا والقوي العظمي لتدمير التجربة تماماً كما حدث في عام 7691 وتم إغراق معظم الأسطول المصري في موقعة نافارين عام 0481، استطاع محمد علي باشا وهو الأجنبي أن يفهم مكامن النبوغ والقوة في الشعب المصري، وأسس لحكم أسرته التي استمرت حتي عام 2591، عندما قامت ثورة يوليو، وتولي البلاد أول حاكم مصري منذ الأسرة الثلاثين، وكان أهم سماته العدل والانحياز إلي الأغلبية من الشعب، لكن الخيار الديمقراطي بقي ناقصاً، وتم التوريث السياسي إلي اثنين من الحكام لا يمثلان ثورة يوليو وتم فرضهما في ظروف تشبه العصر المملوكي، أي الاختيار الشخصي غير المبرر منطقياً، أعني أنور السادات وحسني مبارك، وكلاهما أقصيا عن السلطة بالقوة، الأول بالاغتيال، والثاني من خلال ثورة شعبية كبري لم تتبلور نتائجها حتي الآن، ولكن من أهم ما أسفرت عنه ذلك الحدث الذي نتجه إليه اليوم، الاختيار، لأول مرة يختار المصريون حاكماً لهم وسط تغيرات وظروف دقيقة، كنت أتمني أن يكون المشهد مختلفاً، أن يمثل الثورة مرشحون أقل عمراً، ولكن علينا أن نتفهم الظروف وأن نتعامل مع الواقع القائم، أن نحدد بدقة من يمثل الأمل في المستقبل، ومن يحاول القفز علي ما أنجزه المصريون، اليوم لحظة فارقة في التاريخ بكل المقاييس وأياً كانت الظروف ونتائج الاختيار فإن ما سيأتي مختلف تماماً عما سيأتي بعد تمام الانتخابات التي تبدأ اليوم. القائد الغائب الخميس إن ثورة لم تفرز قائداً أو قادة يجمع عليهم الشعب يجب فحصها وتأمل أحداثها ومسارها، ومضمونها، لست مقتنعاً بما يردده البعض أن الثورة المصرية تنتمي إلي ما بعد الحداثة، لذلك لم يخرج منها زعيم أو قائد، لأن الخصائص الكامنة للمصريين ظهرت منذ الخامس والعشرين من يناير، خاصة ما أسميه »الكل في واحد« وتلك ظاهرة قدر لجيلي أن يشهدها ليلة التاسع والعاشر من يونيو عندما خرج المصريون في لحظة واحدة لرفض الهزيمة وتنحي جمال عبدالناصر، عندما يتحرك القوم كلهم بدون تنظيم معلن أو سري، بدون تمهيد مرتب، تندلع روح خفية فيهب المصريون من كل فج بنفس الروح والدافع، هذا ما جري في العصور القديمة، والوسيطة، وفي الحديثة بدءاً من ثورة 9191 وحتي تشييع الفريق عبدالمنعم رياض وجمال عبدالناصر، ثم انتفاضة الخبز ضد الرئيس الأسبق السادات الذي وصف شعبه بالحرامية وهذا شأن كل ديكتاتور، وصولاً إلي الثورة العظمي في يناير رغم كل ما جري بعدها، هنا يجب القول للشباب الذين أشعلوا فتيل هذه الثورة إن خروج الشعب الذي تصادف بلوغه الحالة المعهودة في تاريخه والتي أسميها »الكل في واحد« جري في نفس التوقيت، هذا الخروج لم يأت من فراغ، بل جري له تمهيد استغرق سنوات طويلة، تمت خلاله عملية تراكم بطيئة أسفرت عن انفجار يناير، هنا أتوقف أمام الحركة الخاصة للمصريين، الصمت لفترات تطول، تتخللها مواقف وإرهاصات حتي ليخدع من هم في مواقع القيادة، وحتي من الثوريين، يظن المسئولون أن الواقع قد دان لهم، ومن المستحيل زعزعتهم وأن الحال باق أبداً، لا ينتبهون إلي تكون عناصر الزلزلة علي مهل، خلال الأعوام السابقة علي يناير قرأت مقالات لكتاب ثوريين تهاجم الشعب المصري وتصفه بالخمول والتقاعس، وكنت دائماً أقول إن تاريخ المصريين يقاس بآلاف السنين فماذا يعني انتظار عشرين أو ثلاثين سنة؟، علي المستوي الفردي مأساة، فعمر الإنسان محدود، ولكن عمر الأوطان ممتد، مستمر، فما البال بوطن عريق مثل مصر آن له أن ينهض من جديد وأن يستعيد الروح التي سرت في أوصاله بعد ثورة 9191، والتي جسدت الخصوصية المصرية التي أضعفتها الدعاوي القومية، وإعلاء الاتجاهات القومية العروبية في الستينيات، ثم التيارات السياسية العاملة تحت ستار الدين، إن الوطنية المصرية وعاء يستوعب هذا كله، العروبة جزء من تاريخ مصر، وليست كلاً، لقد انفجرت الثورة المعبرة عن روح مصر الأصيلة، في يناير، ولكن غاب الزعيم وغاب التنظيم، كان هناك شخص واحد يمكن اعتباره أحد المؤججين الكبار للثورة، في بداية ظهوره لم أستوعب تحركه المصاحب لوصوله إلي مصر، ولكن مع الوقت بدأت أستوعب موقفه، كان ممكناً للدكتور محمد البرادعي أن يكرر ظاهرة سعد زغلول لو انه تواصل مع جماهير الثورة، لكن علمتني التجربة أنه من المستحيل مطالبة إنسان آخر بما يفوق ما يرغب تقديمه، يظل للرجل إشعاله الجذوة عندما طالب بوضع أفضل لمصر التي تستحق ما يفوق الوضع الذي جثم علي أنفاسها، ولكن تمنيت لو أنه تقدم إلي الانتخابات الرئاسية، لو ظهر اسم البرادعي لاتخذت الحالة مساراً آخر، إذن علينا أن نحدد الموقف بدقة، أمامنا ثلاثة عشر مرشحاً، منهم خمسة يعبرون عن الثورة، عن أفق جديد يمكن من خلاله إعادة تأسيس الدولة علي أسس قوامها النزاهة والعدالة والحرية، يوجد مرشحان ينتميان إلي النظام السابق، لا يجب الامتناع عن انتخابهما فقط، إنما مقاومتهما، والحيلولة دون اختيارهما للرئاسة، أما مرشح الإخوان فهو مفروض بقوة التنظيم العلني والسري وقدرته علي التكتل وفرض ثقله التنظيمي والطريقة التي تم إحلاله بها مكان مرشح آخر، وكأن الأمر يشبه ورق اللعب تجعلنا ننتبه إلي أن من يطرح نفسه باسم الإخوان خطر علي مصر، بسبب ارتباطه الخارجي، أعني موقعه من المرشح الأصلي ومن المرشد الموجه ومن التنظيم العالمي للإخوان، إضافة إلي عنصر شخصي، وجود أبناء له يحملون الجنسية الأمريكية، لنفترض أن ظروفاً حتمت مواجهة ما بين الولاياتالمتحدة ومصر التي يتولي رئاستها، وأن الأبناء أصبحوا من رجال الجيش الأمريكي بحكم المواطنة، كيف يتصرف الأب في مواجهة الأبناء المكلفين ضد الوطن الأصلي، هذا ليس خيالاً روائياً لكنه احتمال ليس بعيداً عن الواقع، ويعكس ثغرة لابد من سدها بحيث لا يتولي حكم مصر من ينتمي والداه إلي جنسية أخري كذلك الأبناء. كشف هيئة الاثنين كان ابن إياس المؤرخ المصري الذي عاش نهاية الدولة المملوكية في القرن السادس عشر وبداية الغزو العثماني الذي قاده السفاح سليم الأول، كان ابن اياس يتأمل الحكام الجدد، ويودعهم بالتعليق، كان يتناول صفاتهم وأساليبهم في الحكم، وصفاتهم، ومن ذلك هيئتهم، فكان يقول مثلاً: »وكان خفيفاً، كثير الهرج، غير كفء للسلطنة«، كان يتأمل ملامح السلطان، وحركاته، وخصاله، وهواياته، وقد عرفت مصر أشكالاً من الحكام تعاقبوا عليها بما لم تعرفه دول أخري، ويرجع ذلك إلي طول تاريخ الدولة المصرية وخصوصيتها وميراثها، في الكليات العسكرية بعد تمام جميع الإجراءات والاختبارات يجري كشف مهم، إنه كشف الهيئة، ويعني بمظهر المتقدمين ومخبرهم، أما المظهر فشروطه وأساليب اكتشافه واضحة، فالمتقدم يجب أن يكون شكله مقبولاً، من حيث الملامح، والطول، والتكوين، أما المخبر فهناك أساليب علمية لمعرفته وإن كان لا يسهل اكتشاف جوهر البعض، النفوس الإنسانية أعقد مما نتصور، وخباياها شديدة الالتواء، ولا يقدر إلا الأدب الجيد علي اكتشافها، لذلك يجري تطبيق القواعد العامة التي استقر عليها العُرف وتلك لا تحقق الضمانات المطلوبة، إذا كان كشف الهيئة صارماً بالنسبة لمن يتقدم ليصير ضابطاً أو دبلوماسياً، فما البال بمن سيصبح رئيساً للدولة، تأملت بعض المرشحين المتقدمين حالياً، وبعض الذين رفضتهم اللجنة، تخيلت أحدهم وهو يُلقي بياناً، أو يدلي بحديث إلي صحفي أجنبي، أو يزور مدرسة أطفال، بدون مبالغة لا تصلح ملامح البعض إلا لإثارة التنفير والخشية وأحياناً الخوف إذا نظرنا إلي البعض من وجهة نظر أطفال صغار، بعض المرشحين يعيدون إلي الذاكرة صور زعماء العصابات المشهورين، ومنهم من أجري عمليات تجميل قبل الترشيح ومع ذلك ظلت الوجوه تحمل ملامح القسوة وآثاراً غير معروفة، أما ما يحيرني فكيف يكون شعر الرأس أسود واللحية بيضاء، كيف يجتمع ذلك في شخص واحد، إن إقدام رجل علي صباغة شعره فيه غش، محاولة إخفاء للعمر، وإذا تم التغاضي عن ذلك في حالات بعض الأفراد، فإنه لا يجوز فيمن سيتولي رئاسة الدولة. هذا من شروط الهيئة. عنف الأحد لا أدري ترتيب هذه المرة التي يُضرب فيها الزميل محمد عبدالقدوس، أحد أكبر المدافعين عن الحريات في مصر، والذي أصبح رمزاً بمكبر الصوت اليدوي الذي لا يفارق يده، بدا في الصورة المنشورة علي موقع »اليوم السابع« محاطاً بالبلطجية الأشداء وملامحهم واضحة جداً، أحدهم يلكمه في بطنه، كان ذلك جزءاً من الأحداث المصاحبة لانعقاد مؤتمر في النقابة حول أداء الفريق أحمد شفيق أثناء توليه وزارة الطيران، لو أن الظروف ملائمة، لتم إرسال من يشرح الصورة المقابلة، ولكن الملاحظ ظهور العنف وتصاعده، خاصة من جانب المرشحين المنتمين إلي النظام الذي سقط رأسه في يناير وبقي جسده، من المتوقع ظهور عنف خلال الانتخابات، وبعد النتائج، ممثلو النظام الذين لم تمس أوضاعهم ومازالوا يتحركون بأموال طائلة لديهم الجرأة أكثر من أي وقت مضي لبذل الجهد محاولين استعادة أماكنهم، لقد مورس عنف وصل إلي حد استخدام الأسلحة البيضاء ضد شباب حركة 6 أبريل، بسبب موقفهم الرافض لترشيح الفلول، ومع الأيام تصاعدت الوتيرة، في نفس الوقت لا يمر يوم إلا وتنشر أخبار عن أسلحة مضبوطة. أتوقف كثيراً أمام نوعياتها المتقدمة، وكيانها، أسلحة مضادة للطائرات، وأخري ضد الدبابات، هذه معدات حرب لمواجهة الجيش المصري، فهل تقوم قوي دولية ومحلية وعربية بتمويل إمكانية ظهور جماعات منظمة تبدأ شن هجمات منظمة وقوية ضد الدولة المصرية، إما لاستعادة مزايا النظام القديم ومواقع عصاباته، وإما لتنفيذ صياغات جديدة تطرح للمنطقة وبالتحديد لمصر. إن ما يجري في سيناء خطير، ويجب ألا يلهينا الضجيج الداخلي من أجل الانتخابات أو للصراعات الجارية عما يجري في سيناء التي يبدو واضحاً أنها تحدق بها أخطار حقيقية، إن ما أرجوه وما يتمناه أي إنسان محب لهذا الوطن أن تتم الانتخابات الرئاسية في هدوء، وأن نتقبل النتيجة التي يقررها الشعب أياً كانت حتي يعبر الوطن مزالق الخطر العديدة. من التعاليم.. مصرية قديمة قال أمينوبي الحكيم الدولة القديمة »احذر أن تسلب فقيراً بائساً ولا تمدن يدك لتمس رجلاً مسناً بسوء ولا تسخرن من كلمات رجل هرم ولا تجعلن نفسك رسول سوء هناك شيء آخر محبب إلي قلب الإله هو التأني قبل الكلام، تأن أمام متطفل، وأعرض عمن يهاجم، ونم ليلة قبل التكلم. إذا كنت تحرث، وكان هناك حصاد كاف من حقلك، وأعطاك الله بسخاء، فلا تملأ فمك دون أن تفكر في الآخرين«. (ترجمة سليم حسن)