عزت القمحاوى دم جديد علي ثوب الشرعية الأحمر. ومرة أخري لا معلومات عن القتلة، وإنما الانتقال إلي البند التالي في جدول الأعمال: الانتخابات آتية، الدستور معضلة دعونا نفكر فيها، وعليكم أن تطمئنوا لم يبق إلا القليل من الدم، وسيتم تسليم السلطة! طالما لم نر متهمين يستطيع كل منا أن يخترع المعلومات التي ترضيه وأن يفترض اسمًا ورسمًا للقاتل. ولا يمكن للناس أن تستريح أو تنسي لمجرد ترحيل التهمة علي صفحة الاستدانة المفتوحة باسم "الطرف الثالث". من الممكن استدانة المال من طرف خارجي كالبنك الدولي أو دولة حليفة أو محلي كسندات الخزانة أو حتي العبث بأموال التأمينات كما حدث في أواخر عهد مبارك وابنه وأصدقاء ابنه الذين تعاملوا مع ثروة مصر كما تتعامل مجموعة من قاطعي الطريق مع شاحنة يريدون إفراغها بأقصي سرعة. كل الاستدانات وكل أنواع الخراب الاقتصادي يمكن تداركها، كل الديون قابلة للسداد أو الشطب في خطوة عطوفة من الدائن تجاه مدين يأكل "علي النوتة" لكن في مسألة الشرعية لا يمكن العيش علي النوتة. يمكن للحكم أن يقوم علي جهاز قمع دموي، فيظل واقفًا مكروهًا وعاريًا من أية شرعية إلي حين إزاحته. وقد جاء توقيت إزاحة النظام في 25 يناير، ولم يعد من الممكن إعادة الساعة إلي الوراء، وكان لابد أن تحل مشروعية القرار محل القوة لكن يبدو أن هذه الحقيقة لم تكن واضحة في الأذهان. ولم يتم الانتباه إلي أهمية الحفاظ علي ثوب الشرعية الهش وسريع التلف، بينما كان من الضروري الإبقاء علي رصيد يسمح بانتقال سلس للسلطة. الأخطاء فادحة وبعضها عديم النفع، مثل كشوف العذرية علي المتظاهرات وغيرها من الإجراءات المؤسفة التي كانت إلي جانب بطء المحاكمات وعدم إعادة أموال اللصوص تطلق الاحتجاجات التي تفتح بدورها الطريق لجريان الدم. كل مقتلة جديدة كانت تضيف بقعتها علي ثوب الشرعية حتي لم يعد به موضع لبقعة جديدة. والآن، صرنا أمام انسداد دستوري صنعه العناد والخطأ في ترتيب الأولويات. وأصبحنا أحوج ما نكون إلي شبر أبيض يتيح لنا التصرف بعقل في ترتيبات المستقبل. كان من المنطقي أن تؤجل انتخابات الرئاسة لحين إعداد دستور لائق، لكن الرصيد لا يسمح بطلب هذا التمديد. وجميع القوي جاهزة للشك في نوايا المجلس العسكري بشأن تسليم السلطة. وأمام حتمية إجراء الانتخابات في موعدها وضرورة أن يعرف الرئيس القادم رأسه من رجليه لا بد من حل لموضوع الدستور، ولم يعد هناك سوي الحلول الثلاثة التي أعلن عنها المجلس بعد التشاور مع خبراء القانون، وأحلاها مر. وهي إما كتابة الدستور باستعجال غير معقول أو تفعيل الدستور السابق الذي تم إيقافه بموجب الثورة، وأقل أضرار هذا الخيار أنه فأل سييء والحل الثالث هو إضافة مواد علي الإعلان الدستوري الذي دخل إلي التنفيذ مرفوضًا من القوي المدنية مؤيدًا من قوي السياسة المتأسلمة فقط، ثم عادت وأعلنت توبتها عن موافقتها، كل فصيل لأسبابه. ولم يكن اعتصام أتباع المرشح أبو إسماعيل من السلفيين إلي الاعتصام احتجاجًا علي استبعاده، إلا التعبير الأعنف عن سحب الموافقة علي الإعلان، فكان هذا الدم الفادح الجديد. الاعتصام يكشف عن تغول هذه القوي، وهذا ليس اكتشافًا بل حقيقة معروفة، وكل الدول الديمقراطية تمنع القوي الرافضة للاحتكام للقانون من العمل السياسي. ولابد أن نسأل: لماذا تم الدفع بقوة خارجة علي قوانين اللعبة الديمقراطية إلي ملعب السياسة؟! خطيئة سياسية تم ارتكابها في لعبة تكتيكية ضد القوي المدنية، وقد أدي السلفيون دورهم في تحريم التصويت بالرفض علي التعديلات الدستورية ثم عادوا ورفضوا التعديلات ليتطابقوا مرة أخري مع القوي المدنية وعاد المجلس العسكري ليعرف ما قالته القوي المدنية عن خطورة استخدام الدين المنزه والخالد في ملعب السياسة المدنس والمتلون. للمجلس العسكري أن يندهش من إنكار أبو إسماعيل وأتباعه لأية وثيقة تثبت جنسية والدته، وهذا ليس مدهشًا، فهم لا يؤمنون إلا بكتاب الله وليس فيه نبأ الجنسية، وله أن يندهش من مطالبتهم الآن بتعديل الإعلان الدستوري الذي وافقوا عليه من قبل، لكن هذا ليس مدهشًا علي الإطلاق فيما يتعلق بهذا الفصيل، ولن يكون مدهشًا أن تقف أية قوة سياسية أخري وتطلب أكثر من حقها، فمن يحرم من الحق يطالب بأكثر منه. وهذا الحرمان من الحقوق والتأخر في دفع الاستحقاقات هو الذي أفني رصيد الشرعية حتي علي مستوي الوحدات الإدارية الصغري، حيث أصبح بمقدور أي موظف لا يريد الامتثال للنظام أن يرفع لافتة ويعتصم تحتها. وسنحتاج إلي وقت طويل من أجل إعادة الانضباط الإداري. ولكن العاجل الذي يهمنا هو انهيار الثقة بشأن أهم خطوتين في الحياة السياسية المصرية: الدستور وانتخابات الرئاسة. وقد كان تغول الإخوان في تشكيل لجنة الدستور بداية لحالة انعدام ثقة مستمرة بين الأطراف كلها، والآن بدأت الأصوات المتنبئة بتزوير الانتخابات تتصاعد؛ فأي نوع من المستقبل يطرق أبوابنا الآن ونحن نستعد له بدستور ناقص حتمًا وبانتخابات قد تجد من يرفض نتيجتها؟!