تعود سبب شهرة هذا الرجل العظيم ليس لسياسته فحسب وإنما أيضا لطباعه الحميدة السامية. واعتبر عند كتاب التاريخ العرب رمز الشجاعة والرجولة والعدل، وقد شهد له بالشجاعة والإقدام في ساحة الحرب، كما شهد له أيضا باحترام المواثيق وعدم رفضه رجاء أي شخص نبيل. لم يتم وصفه علي هذه الشاكلة من المصادر العربية فقط وإنما أيضا من مصادر أوروبية وغربية عدة علي مر العصور وعرف عند الغرب بأنه مثال الفارس المتكامل. يقول المستشرق برند إربل سفير ألمانيا السابق في مصر في مقدمة كتاب السلطان صلاح الدين الأيوبي بين القاهرةودمشق:" كان السلطان صلاح الدين الأيوبي ولا يزال يتمتع بسمعة الحاكم المستنير والمتسامح، وكثيرا ما اصطبغت شخصيته بصبغة رومانسية، وغلب علي خصالة في الغرب صفة البطل النبيل ولايزال العالم الإسلامي يحتفي به حتي اليوم. ففي أعقاب انتصاره علي الصليبيين في موقعة حطين لم يرغب في الإنتقام منهم علي ما اقترفوه في عام 1099 ميلادية من مذابح إبان استيلائهم علي بيت المقدس. ووضع بذلك أساسا للتعايش السلمي المشترك في بيت المقدس. لقد لاقت شخصيته وطابعه البطولي الذي جعله يتعامل دائما باحترام حتي مع أعدائه »صدي إيجابيا في العديد من المصادر العربية والغربية«. لقد كانت لهذه الشخصية التاريخية أسطورية من كثرة الصفات الحميدة التي تمتع بها ذلك الرجل السياسي الحكيم. كان هدف السلطان صلاح الدين هو جمع شمل البلاد تحت راية واحدة وتشجيعهم علي الاتحاد في سبيل استعادة القدس الشريف ، فقد كانت النزاعات العسكرية بين الشرق والغرب والتي تجلت في الصراع علي القدس واستيلاء الصليبيين عليه هي ما ركزت عليه كتب التاريخ المدرسية ولم تركز علي الاتصال الثقافي في وقت الأزمات ، وتأثير الثقافة العربية في ذلك العصر علي الغرب وتعرف أوروبا في العصور الوسطي ولأول مرة علي ثقافة جديرة بالاحترام. من خلال ذلك التبادل الثقافي عرف العالم الأوروبي النهضة في الفنون الحرفية والعمارة والعلوم الطبيعية بجميع فروعها. وللتعرف علي هذه النهضة يجب علينا إلقاء نظرة علي ثقافة العالم العربي بمسلميه ومسيحيه بين القرنين العاشر والثاني عشر وبشكل خاص في مصر والشام، فمن مصر بدء صلاح الدين حملاته لتحرير الشام من المحتل، فاجتاز الأراضي دون مصاعب تذكر، وفي دمشق فتحت الأبواب لاستقباله ، فأكمل انطلاقته نحو حمص وحماة حتي وصل إلي حلب التي دخلها أيضا باحتفال كبير وصار من وقتها ملك مصر وبلاد الشام كجسم واحد. وبرزت بذلك الدولة القوية التي تشد الخناق علي الفرنج، الذين لم يكونوا في المقابل متضامنين، بل غارقون في نزاعات داخلية، ففي حين كان المرض يفتك ببعض ملوكهم، كان الطموح والطمع يشتد لدي بعض قوادهم ليصبحوا ملوكا، و قد ملأ ذلك نفوسهم حقدا، بينما مال البعض الآخر إلي المصالحة، أو إقامة علاقة حسن جوار مع صلاح الدين الذي أثبت لهم أنه فارس بكل ما تعنيه الكلمة من قيادة وقدوه وسعي للسلام، فوافق علي هدنة لم تستمر طويلا حيث نقضها رينو دو شاتيو المعروف عند العرب بالأمير "أرناط" الذي كان متعطشا لسفك الدماء فأحتل القدس وتحالف مع فرسان الهيكل وبدء في المناوشات والنهب والسلب للأراضي المحيطة بالقدس وفي خريف 1183 قرر غزو مكة ونهبها فحاربه صلاح الدين ومعه أخوه العادل وإنتصر عليه. لقد إحترم صلاح الدين الهدنة حتي النهاية، ولكنه بعد عدة اختراقات مشينة من قبل أرناط قرر القيام بحملات علي أراض يحتلها الفرنج، بعد أن هيأ الأجواء لدي امراء مصر والشام وشبه الجزيرة العربية وغيرها، يدعوهم إلي حشد القوي للمشاركة في الجهاد ضد المحتل، فجاءت ألوف الخيالة والمقاتلين إلي دمشق من كل بلاد المسلمين، استعدادا لبدء معركة سُجلت بأنها أهم المعارك الفاصلة في التاريخ وهي معركة حطين. خاطب صلاح الدين قوادة والمقربين إليه يحثهم علي قتال الغزاة قائلا: " إننا وجدنا هنا لنبقي، في حين أن ملوك الفرنج ليس لهم إلا الاشتراك في حملات لن تلبث أن تنتهي عاجلا أو آجلا. لقد حقق صلاح الدين انتصارا مشهودا في حطين تلاه تحرير لأراض ومدن كانت أهمها القدس الشريف. كما سجلت هذه المعركة كمثال علي مدار تاريخ الحروب في نبل الأخلاق وفي الكرم والإحسان والعفو من قائد منتصر. ومن أشهر القصص علي كرم ونبل أخلاق صلاح الدين أن الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد كان قد سمع بصلاح الدين فقرر السعي للتعرف عليه عن قرب، فكان رد صلاح الدين: " لايجتمع الملوك إلا بعد اتفاق، لأنه لا يليق بهم التحارب بعد التعارف وتقاسم الطعام"، ولكن عندما اعتلت صحة قلب الأسد وعلم صلاح الدين بمرضه أرسل إليه طبيبه الخاص لعلاجه وبقي بجواره لمداواته ، فضرب بذلك مثلا للنبل والقيم السامية التي يتمتع بها العرب الأحرار. وقد دعا صلاح الدين جميع الطوائف الدينية بعد تحريره القدس، للعيش في سلام، داعيا إياهم إلي مقاسمته الطعام، مؤكدا لهم علي رغبته الصادقة في المحافظة علي حرية العبادة. عرف عن صلاح الدين الأيوبي صدقه وتواضعه اللذان يبدوان حتي من خلال حديثه، و يظهر تواضعه جليا مع الضعفاء، وكان دائما ودودا مع جنوده. كان شجاعا، عادلا رحيما، رقيق الشعور، متسامحا، شهما، ذو شخصية ساحرة مؤثرة حتي علي الغربيين. كان كريما يحتفي بمن يزوره، حتي لو كان من أعدائه، ويدعوه للطعام معه.كان حكيما هادئا، يفضل المشورة علي الاستبداد برأيه، و يبحث مع أركان حربه كل الظروف ويخطط معهم شئون الاستعداد للمعارك ووضع خطط الهجوم وتنفيذ التعليمات بإنضابط ودقة. كان يحتقر الإسراف والبذخ، فسكن وهو في القاهرة في مقر متواضع مخصص للوزراء، وترك قصور الفاطميين التي صارت بحوزته للأمراء علي الرغم من أنه كان علي رأس أغني أسرة حاكمة مسلمة. كما كان ملتزما بتعاليم دينه صالحا، متفان في الجهاد ، و لكنه بعيد كل البعد عن التزمت والتشدد! كان أكثر شخصيات القرون الوسطي شهرة وتأثيرا في حكام عصور لاحقة بعدة قرون وكان من أكثر الشخصيات إعجابا به هو السلطان عبد الحميد الثاني الذي تبرع ببناء ضريح لمدفن صلاح الدين من الرخام المزخرف بالورود بالمسجد الكبير بدمشق، كذلك القيصر الألماني وليم الثاني الذي كان من أشد المعجبين بصلاح الدين فقام بزيارة قبره في عام 1898 وقام بإهداء مصباح من الفضة ليضييء الضريح الأصلي القديم الذي أقيم فوق القبر في القرن الثاني عشر الميلادي، كتب عليه جزءا" وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم" من آية الكرسي وكذلك الدعاء " يا الله ارحمه وافتح له باب الجنة فهذه آخر الفتوحات التي تمناها". فما أحوجنا اليوم لحاكم به هذه الصفات العظيمة ليقود سفينتنا إلي بر الأمان والاستقرار نلتف حوله جميعا فننسي خصوماتنا ونبدي مصلحة الوطن عن أي مصلحة شخصية مهما كانت أهدافها. إن القارئ لتاريخ هذه الشخصية التاريخية العظيمة ليخفق قلبه بشدة تشوقا لعودة الروح وظهور شبيه للناصر والمنقذ العادل صلاح الدين.