ليسَ هناك في 14 آذار من يوجّه التهمة إلى 8 آذار، كلّه أو بعضه، بأنّه ينام على مسوّدة دستور بديل للبلاد يُحلّ المثالثة مكان المناصفة. التهمة الموجّهة إلى 8 آذار هي أنّه يسعى لتعطيل النظام البرلمانيّ اللبنانيّ القائم على مبدأ المناصفة بين المسلمين والمسيحيين وعلى مبدأ الفصل والتعاون بين السلطات. التهمة أنّ 8 آذار يسعى لإبطال الدستور الحاليّ على أساس التقاطع بين رفضين مزمنين له، فما يربط العماد ميشال عون ب"حزب الله" منذ نهاية الثمانينيات هو الإحتقان ضدّ إتفاق الطائف لدوافع وأسباب مختلفة لا يجمعها جامع في مشروع إصلاح دستوريّ بديل. لا يمتلك 8 آذار بديلاً دستوريّاً يطرحه على الناس، لكنّه يعمل بدلاً من ذلك على تقويض النظام الدستوريّ الحاليّ مازجاً بين نعي متكرّر لإتفاق الطائف وبين دعوات لتصحيحه وبين تبنّ إسميّ وتحريفيّ له. وكان آخر التحريف إفتراض أحد الخطباء أن عروبة لبنان الواردة في مقدمة الدستور اللبنانيّ إنّما تفرض عليه الإنتساب إلى منظومة الممانعة تحت قيادة الثورة الإيرانيّة، في حين أن مقدمة الدستور تربط عروبة لبنان بنهائيته كوطن وبنظامه البرلمانيّ القائم على الفصل بين السلطات ونظامه الإقتصاديّ الحرّ القائم على المبادرة الفردية وليس بأي أيديولوجيا نصف شمولية من نوع "المقاومة والممانعة". أمّا المناصفة فقد نقضها 8 آذار يوم انقلب على الميثاق، أي يوم اعتبر أن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى غير شرعية بسبب انسحاب وزراء "حزب الله" و"حركة أمل" منها، وعلى أساس تأويل تحريفيّ للفقرة "ياء" في مقدّمة الدستور، التي تسقط شرعية أي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك. هذا مع العلم أنّ ميثاق العيش المشترك معقود بين المسلمين ككل والمسيحيين ككل، وأنّه لا يختلّ إلا إذا أختلّت هذه الثنائية وليس أبداً إذا تنازع المسلمون الحصص في ما بينهم أو فعل المسيحيّون كذلك. ما جرى كان خروجاً عن ألفباء الميثاق، بإدعاء إحتكار تفسير الدستور من قبل الذين لا يؤمنون به لأسباب مختلفة. أما المثالثة، تلك التي ينفيها فريق 8 آذار عن نفسه الآن، فهو يتصرّف بها في الليل والنّهار ويسمّيها "الثلث الضامن". في مرحلة "ما قبل 7 أيّار"، فرض 8 آذار نظريته في "الثلث الضامن" من خلال رئاسة لمجلس النواب قادرة على تعطيل عمل المؤسسة التشريعية لسنتين، ومن خلال إعتبار الحكومة غير شرعية حتى لو انسحب منها أقل من ثلث الوزراء علماً أن الدستور لا يعتبرها مستقيلة إلا إذا انسحب الثلث. وفي مرحلة "ما بعد 7 أيّار" فرض 8 آذار نظريته في "الثلث الضامن" من خلال انتزاعه له في حكومة "الوحدة الوطنية"، ووفقاً لترتيبات "إتفاق الدوحة" وعلى أساس المعطيات الميدانية المفروضة بقوة السلاح، لكنّه طالب أيضاً بأن يكون له "الثلث الضامن" في مؤسسة رئاسة الجمهورية، بأن يبتدع منصب نائب للرئيس، و"الثلث الضامن" في منصب رئاسة مجلس الوزراء بأن يشطر هذا المنصب إلى رأسين. إن لم تكن هذه هي المثالثة فما تكون المثالثة؟ لا أحد يتّهم 8 آذار بأنّه يريد تخليص نظامنا البرلمانيّ من المناصفة كي يعيد انتاجه على قاعدة المثالثة، وإنما بإنه يريد تكريس "الثلث الضامن" الذي هو هو "المثالثة" للتخلص من النظام البرلمانيّ نفسه. لا أحد يأخذ على محمل الجدّ شعار بعض 8 آذار بشأن إقامة "جمهورية ثالثة". التهمة المركزية هي أنّ الحركة التعطيلية الإنقلابية الإستتباعية تهدّد ليس فقط "الجمهورية الثانية"، وإنّما "الجمهوريّة اللبنانية" بالشكل الذي قامت عليه منذ 1926 وإلى اليوم. أمّا "جمهورية المثالثة" فهي القائمة بالفعل اليوم خلافاً لأحكام الدستور اللبناني وإتفاق الطائف، والشكل الذي تتخذه "جمهورية المثالثة" المفروضة كأمر واقع اليوم هو حاكمية، أي ديكتاتورية، الثلث الديموغرافيّ المنظّم بشكل مسلّح، وعلى أساس التعبئة الأيديولوجيّة التي تحضّ على العنف. إن "إتفاق الطائف" هو الذي أدخل إلى الفلسفة الدستورية اللبنانية معادلتي المناصفة والمثالثة. يقوم "الطائف" على معادلة مركّبة: المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، والمثالثة بين الطوائف الثلاث الكبرى، المارونية والشيعية والسنيّة. وهذه المعادلة لا تستقيم إلا على قاعدة خضوع المثالثة للمناصفة، أي خضوع المحاصصة المنصفة بين الطوائف الكبرى للميثاق الثنائيّ الأساسيّ بين المسلمين والمسيحيين. وإن كان ثمّة تمهيد ل"إلغاء الطائفية" بموجب إتفاق الطائف، فلجهة التخفّف قدر الإمكان من القيود التي تفرضها المحاصصة الثلاثية بين الطوائف الثلاث الكبرى على حركة تداول السلطة وعلى تجربة الفصل بين السلطات، وليس أبداً لجهة مراجعة المناصفة الميثاقية بين المسلمين والمسيحيين. لكن ما يريده 8 آذار هو العكس تماماً. فبدلاً من أن تكون المثالثة خاضعة للمناصفة، يريد 8 آذار مثالثة منفلتة من عقال المناصفة، مثالثة لا ترسي على أي شكل دستوريّ، مثالثة تَمْسُخ ولا تنسُخ، مثالثة تجد تعريفها الأبسط في أنّ ثلثاَ من ثلاثة يحجز لنفسه قرار الحرب والسلم، ويمتلك جيشاً غير الجيش ودولة داخل الدولة، وتتواضع "حاكمية الثلث المسلّح" بعد ذلك فتكتفي ب"الثلث الضامن" و"الزاهد" في الدولة "المجاورة"، أي في ما تبقى من الدولة اللبنانية.