«أهرام.. أخبار.. جمهورية.. إقرا الحادثة».. هذا المشهد الكلاسيكي لبائع الجرائد في شوارع القاهرة، وهو يصيح كل صباح صيحته الفلكلورية الأثيرة التي تشعرك أن شيئا ما عظيما قد حدث، يكاد يندثر في صباحات القاهرة هذه الأيام، بعد أن تحولت الصحافة الحكومية والخاصة إلى صحافة مسائية بامتياز، وباتت معها لذة الاكتشاف المصاحبة لنور الصباح باهتة إلى حد كبير. «إنها ميزة مسلية جدا».. هكذا يصف طاهر القاضي طبيب قاهري ينتهي من عمله في عيادته الخاصة قبل منتصف الليل بقليل، يبدأ بعدها في ممارسة طقوسه الليلية في السير قليلا بمحاذاة ميدان رمسيس باتجاه كشك الجرائد المتاخم للميدان القابع بوسط العاصمة، وينحني نحو الحامل المعدني ملتقطا ما يشتهي من صنوف صحافة القاهرة الطازجة ليعرف أخبار الغد. فقراءة صحف الغد ميزة جديدة لم يعهدها من قبل، لكنه بات حريصا على تنفيذها كل ليلة، يتساءل بينما يطوي صحيفته المفضلة على مائدة المقهى «أليس من الممتع أن تعرف كل شيء مبكرا قبل أن تنام؟، ناهيك من لذة قضاء الساعات الأولى من الصباح، وأنت تقرأ أخبارا مسلية وموضوعات مشوقة مع ميزة أنها طازجة جدا». ففي التاسعة من مساء كل يوم، يمكن الحصول من أكشاك باعة الصحف على صحف الغد على اختلاف أنواعها وتوجهاتها، بعد أن درجت مؤخرا معظم هذه الصحف في الصدور مساء مثل الأهرام والأخبار والجمهورية والمصري اليوم والدستور والبديل. التنافس بين الصحافة القومية والصحافة الخاصة بات على أشده كل يوم تقريبا، فكم من مرة يرى قارئ «الصحافتين» تفسيرات وتعليقات مغايرة ومتناقضة لحدث واحد. البعض يذهب في طريق ليّ الحقائق وإعلام القارئ «أن كل شيء تمام» بينما يحاول البعض الآخر التعبير عن الحجم الحقيقي للأحداث وتداعياتها. صراع لا يكاد ينتهي، والقارئ أصبح محور الاهتمام، ومن ثم كان الصدور مساء ربما أحد أدوات هذا التنافس. في ميدان التحرير بوسط القاهرة، وعند حلول المساء، يقف هاني رمضان بائع الصحف منتظرا سيارات التوزيع وهي رابضة في أحد أركان الميدان، وتلقي باتجاهه أكواما من صحف الغد المتنوعة، بجوار محطة مترو الأنفاق. يبدأ رمضان في توزيعها على ما يقرب من 100 بائع صحف يعملون في منطقة وسط البلد والمناطق الرئيسية للتوزيع، مثل أحياء المهندسين والدقي ومنطقة الهرم. يقول رمضان أن توزيع الصحف الآن صار ليليا بنسبة أكبر وأن توجه الصحف إلى الصدور مساء لبى حاجة قطاع كبيرة من القراء «السهيرة» الذين يفضلون قراءة صحف الغد في الليلة السابقة وحتى الساعات الأولى من صباح اليوم الجديد، ويضيف رمضان أن نسبة توزيع الصحف لديه مساء تصل إلى 60% من نسبة البيع لديه، وتتزايد نسبة الإقبال من الشركات الخاصة والفئات العاملة من الشباب وكبار السن، الذين يعودون إلى منازلهم ليلا، بينما يظل الموظف الحكومي بحسب رمضان، هو زبون الصباح الدائم. ويرى رمضان أن الصدور المبكر للصحافة الخاصة اكسبها شعبية لدى قارئ الليل، باتت تهدد في بعض الأحيان، عرش الصحافة القومية. مشيرا إلى أن صفحات الرياضة المتخصصة يكون لها وقع خاص في حركة البيع لديه، حيث يقل البيع مساء في حال إقامة المباريات ليلا، إذ يفضل القارئ انتظار الطبعة الصباحية، ليقرأ التغطية الكاملة للمباريات، بينما ينتعش البيع ليلا كل نهاية أسبوع. كانت صحافة القاهرة قد بدأت الإصدارات المسائية لصحفها بالتزامن مع حرب الخليج الثانية وغزو الكويت عام 1990، مستفيدة من القوى الشرائية للقراء، وكان من بينهم الكويتيون المقيمون في القاهرة آنذاك، الذين كانوا متلهفين لمعرفة آخر تطورات الموقف. وبدأت الصحف وقتها في إصدار طبعتها الثالثة مساء كل يوم، بينما كانت الطبعة الأولى التي تصدر مساء مخصصة للأقاليم ومحافظات الجمهورية الأخرى. يقول خالد السرجاني مدير تحرير صحيفة الدستور الخاصة، إن صحافة المساء بدأتها جريدة الجمهورية القومية، بعدما تولى الكاتب محسن محمد رئاسة تحريرها، وبدا هناك ضعف في التوزيع، فما كان منه إلا أن وجه الصحيفة للصدور مساء لتستقطب زبائن الليل من مرتادي السينما وغيرهم من العائدين لبيوتهم ليلا. ويضيف السرجاني أن هذا التوجه حقق مردودا ايجابيا فرض على الصحف الأخرى القيام بنفس الخطوة. ويبين السرجاني أن الصحف الخاصة تقوم بطباعة صحفها في مطابع الصحافة القومية، ضمن جدول للطباعة يتم الانتهاء فيه من طباعة الصحافة الخاصة أولا ثم القومية، فكانت ضرورة صدور الصحافة المستقلة ليلا تبعا لذلك. ويؤكد السرجاني أن نسبة توزيع الصحافة المصرية مساء تصل إلى 40% من جملة التوزيع، معتبرا أن هذا التوجه أثر بشكل كبير على المهنية الصحافية، حيث أصبحت عملية «طبخ» الصحيفة تجرى باستعجال نظرا لضيق الوقت، الأمر الذي تحاول الصحف معالجته عبر متابعة الأخبار التي تشعر أنها لم تستوف حقها في المتابعة في اليوم التالي على نحو موسع وأكثر تفصيلا. د. أشرف صالح أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، يرى أن الصحف المسائية تبدو مناسبة تماما للقارئ وعاداته، ففي الصباح يذهب هذا القارئ إلى عمله ويجد صعوبة في قراءة صحيفته المفضلة لانشغاله، لكن في المساء يستطيع هذا القارئ شراء صحيفته الطازجة والجلوس في الشرفة مساء، وبجواره كوب شاي ومن ثم قراءتها. لكن لهذا الأمر، كما يؤكد صالح، انعكاس آخر على المهنية الصحافة، إذ بدت الصحافة القاهرية تخطب ود القارئ من خلال اختيار الموضوعات المحببة لنفسه، وتوقيت طرحها وتقديمها له، ومن ثم انقلبت الصحافة القاهرية إلى وسيلة للتسلية والاهتمام المكثف بصفحة الرياضة على حساب الأخبار السياسية، وهو ما يطلق عليه «الصحافة الترفيهية» التي تناسب قارئ الليل الذي يهوى السهر.