تثير منطقة "أبيي" الحافلة بالثروات الطبيعية صراعات متجددة من حين لاخر بين شمال وجنوب السودان حيث يتصدر النزاع بين القوات الحكومية والجيش الشعبي لتحرير السودان في "ابيي" الجدل السياسي في السودان، بعد اندلاع المصادمات بين الطرفين فى 13 مايو 2008 مما طرح التساؤل عن تأثيرها على اتفاق السلام الشامل ، و الشراكة بين طرفي الحكم (حزب المؤتمر الوطني والجبهة الشعبية)، وقد أسفرت المصادمات التى بدأت 13 مايو 2008 عن أكثر من ثمانين قتيلا وعدد كبير من الجرحى فضلا عن نزوح آلاف المدنيين من المنطقة هربا من تبادل القصف المدفعي بين الطرفين .فى غضون ذلك سيطر الجيش السوداني على المدينة بعد أن طرد منها القوات الموالية لحكومة جنوب السودان التي تتمتع بحكم ذاتي. وكانت الأممالمتحدة قد حذرت من أن الصراع بين الشمال والجنوب حول "أبيي" يعتبر أكبر تهديد لاتفاق السلام الذي عقد منذ ثلاث سنوات وأنهى نحو ربع قرن من الحرب الأهلية بين شمال وجنوب السودان ودعا الى توحيد الشمال والجنوب عن طريق تقاسم السلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية ومنح أهالى جنوب السودان فترة انتقالية لمدة ست سنوات لاجراء عملية استفتاء على استقلاله فى 2011 ، كما حث الاتحاد الافريقي الحكومة السودانية والحركة الشعبية على الالتزام بضبط النفس والسعي لتسوية سياسية بالطرق السلمية . وتقضي اتفاقية السلام بين الشمال والجنوب في عام 2005 بضرورة تخصيص وحدات خاصة مشتركة من الجنود الشماليين والجنوبيين لحراسة منطقة "أبيي" ،بينما يخشى المراقبون ان تؤدى مشكلة "أبيي" على المدى البعيد الى تكريس حالة انعدام الثقة بين شريكى السلام فى السودان وهما المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية لتحرير السودان. ويعتبر الخبراء الاستراتيجيون منطقة أبيى من أكثر مناطق النزاعات فى السودان وأشدها توترا من الناحيتين الاستراتيجية والاجتماعية ..فقد كانت هذه المنطقة الصغيرة سبباً فى انهيار اتفاقية أديس ابابا عام 1972 وكادت أن تعصف بمفاوضات السلام بضاحية نيفاشا الكينية فى عام 2004م. معالم ..منطقة "أبيي": تقع" ابيي "عند الحدود بين الشمال والجنوب السودانى بالمنطقة الجنوبيةالغربية لولاية جنوب كردفان حاليا، فى مساحة تقدر بخمسة وعشرين ألف كم2 وتبعد 50 كيلومترا عن بحر العرب (نهر صغير بين الشمال والجنوب)، ومعظم اراضيه رعوية، وتحدها شمالا المناطق التى تسكنها قبيلة المسيرية، وجنوبا بحر العرب القريب منها. ويعيش فيها مزيج من القبائل الأفريقية مثل"الدينكا" .. المعروفون ب(دينكا نقوك).والعربية مثل المسيرية والرزيقات، حيث يزعم كل طرف سيادته التاريخية على المنطقة . ويعد عقد الستينيات من القرن الماضى أكثر الفترات التى شكات نقطة فارقة فى تطور قضية أبيي والصراع بين قبيلتى الدينكا نقوك والمسيرية على الحدود. ومنذ التوقيع على بروتوكول تسوية النزاع حول "أبيي" فى السادس و العشرين من مايو 2004 بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان دخلت المنطقة عهدا جديدا الا أن النزاع حول حدودها وثرواتها يتجدد من حين لاخر لكونها مثلث غني بالنفط والغاز الطبيعي والمعادن والمياه، يتبع إدارياً لجنوب كردفان، لكنه يمتد جغرافياً إلى داخل بحر الغزال في الجنوب. وعندما رسم المستعمر الإنجليزي حدود مديريات السودان بعد سقوط الدولة المهدية، طالب أهالي أبيي إلحاق المنطقة بجنوب كردفان، و ذلك في عام 1905. ووفق مجموعة الأزمات الدولية.. فقد بلغت قيمة عائدات النفط المستخرج من أبيي في 2007 نحو 529 مليون دولار, وهي مبالغ ضخمة يمكن استثمارها فى التنمية . وتثير ثرواتها الطبيعية أطماع الدول الأجنبية ، وخاصة أمريكيا وبريطانيا، ولهذا يرى بعض المحللين أنهم حريصون على ضم المنطقة الى الجنوب، لتكون لهم السيطرة وحرية التصرف بهذه الثروات . وقد ظلت منطقة أبيي نموذجا للتعايش السلمي بين السكان عبر عشرات السنين حيث تقطنها قبائل عربية وأخرى أفريقية حتى اندفع مثلت أبيي الثرى بالنفط والغاز الطبيعي والمعادن والمياه، إلى الحلبة الملتهبة في النزاع بين الشمال والجنوب، حين استطاع زعيم الجيش الشعبي الراحل جون قرنق أن يجتذب بعض أبناء المنطقة إلى متمردى حركته ، مما جعل أبيي أشد مناطق الخلاف عنفاً وحساسية، لدرجة أنها انفردت ببروتوكول خاص ضمن بروتوكول ميشاكوس ، ومن ثم ضمن بنود اتفاق نيفاشا.وتتكون قبائل أبيي من عدة مجموعات هى : الشات، الرنقة، المادي، الدينكا أنقوك، الجور،الداجو، البيقو، الفرتيت ، النيالقلوقي (داجو)، المسيرية والرزيقات وبعض البرقو والفلاتة امبررو. بؤرة صراع .. حول الحدود والبترول : ويرجع الصراع حول منطقة "أبيي" إما الى اختلاف القبائل العربية والأفريقية حول حدودها وما اذا كانت تابعة للشمال أم الجنوب فى حين يتنازع قادة الحكومة المركزية وحكومة الجنوب حول النصيب الأوفر فى حقولها النفطية . ولاتزال مشكلة ترسيم حدود "ديبى " في انتظار الحسم النهائي ، وتنفرد "أبيي" باعتبارها من مناطق النزاع الساخنة ببروتوكول خاص ضمن بروتوكول "ميشاكوس" 2002، ثم ضمن بنود نيفاشا 2004..حيث قضت الاتفاقية بمنح المنطقة حق الاستفتاء على تحديد تبعيتها للشمال أو الجنوب ، وتشكلت لجنة تضم خبراء دوليين لترسيم حدود المنطقة والنظرفي وثائق الطرفين من أجل حسم موضوع تبعيتها قبل الاستفتاء.. وقد رفضت الحكومة التعامل مع تقرير الخبراء الأجانب في اللجنة التي تكونت بموجب اتفاقية نيفاشا لترسيم حدود أبيي، لأن تقرير الخبراء الصادر فى يوليو 2005 حكم بتبعية مثلث ايبى للجنوب، متجاوزا بذلك حدود المديريات الموروثة بعد الاستقلال عام 1956م، والتي كانت مرجعا أساسيا بنيت عليها اتفاقية نيفاشا ترسيم حدود الجنوب. وبررت الحكومة رفضها بأن اللجنة قد تجاوزت صلاحياتها و ضمت إلي ايبى مناطق لم تكن تتبعها كما أن الخبراء تجاوزوا أسس إجازة التقرير النهائى للمفوضية بعدم رجوعهم إلى الطرفين حسب إجراءات عمل المفوضية . كما رفض العرب المسيرية التقرير واعتبروه محاولة لانتزاع أرضهم التي استوطنوها منذ أكثر من ثلاثمائة عام، قبل مجيئ الدينكا نقوك، الذين دفعتهم حروبهم مع القبائل الزنجية و فروع الدينكا الأخرى إلى الاحتماء بهم في هذه المنطقة، فى المقابل يصر أبناء دينكا نقوك على أن المسيرية جاءوا بعد استيطان أجدادهم بالمنطقة .. ولكنهم لم يقدموا وثيقة واحدة تدل على أسبقية وجودهم التاريخي في تلك المنطقة، بينما يقدم المسيرية دلائل تاريخية متمثلة في معارك خاضوها في المنطقة مع سلاطين كردفان في القرن الثامن عشر. وتشير القراءة الفاحصة لبنود بروتوكول "أبيي"، وفقا لبعض المحللين الى أن الخبراء قد تجاوزا فعلاً الصلاحية الممنوحة لهم حيث إن الخبراء يجب أن يحددوا إلى أين تتبع أبيي شمالاً أو جنوباً وفق حدود 1905م ،وهذا لم يحدث إطلاقاً لعدم عثورالخبراء على وثائق 1905م أو لم يريدوا إظهارها ،واعدوا تقريراً لا علاقة له بالتفويض الممنوح لهم من قريب أو بعيد. بل تؤكد الوثائق البريطانية منذ فترة الاحتلال ان منطقة "أبيي" – حسب رأى الحكومة- كانت تتبع للشمال منذ عام 1905 أى قبل ان يتم ضم مديرية بحر الغزال . وبناء على ذلك ترى الحكومة ان منطقة "أبيي" شمالية وانه لا يمكن تغيير وضعها وضمها الى الجنوب بل يجب ان تدار كمنطقة خاصة تابعة لرئاسة الجمهورية لتوفير الرعاية اللازمة لها بعد ان لحقت بها الكثير من الاضرار نتيجة الحرب, كما يؤكد الموقف الحكومى على ان اتفاق مشاكوس قد اعتمد الحدود الجغرافية للسودان وفقا لترسيم المناطق او المديريات التسع لدى اعلان استقلال السودان فى اول يناير 1956 وهو ترسيم احتفظ لابيي بمكانها ووضعها ضمن حدود الشمال وليس الجنوب . فى حين ترى الحركة الشعبية لتحرير السودان أن أبيي كانت تابعة للجنوب لمديرية بحر الغزال قبل 1905، ولكنها ضمت من قبل الحاكم العام البريطاني للشمال مديرية كردفان بقرار إداري.وتطالب الحركة بإعادتها إلى الجنوب بقرار إداري مماثل يصدر من رئيس الجمهورية., محددا للمنطقة التى كانت تحمل الاسم نفسه فى اتفاق أديس أبابا 1972. بروتوكول "أبيي" : و فى إطار إتفاقية السلام الشامل أُختصت أبيي ببروتوكول خاص لحسم النزاع فيها و يقصد بمنطقة أبيي طبقا لما جاء فى البروتوكول منطقة مشيخات دينكا نقوك التسع التى تحولت الى كردفان فى عام 1905. .فقد توصل الجانبان الى بروتوكول حسم نزاع ابيي فى 26 مايو 2004 م .و تم الاتفاق على مناقشة القضايا الخلافية المثارة،ومنها تقسيم ثروة السودان على نحو متكافئ بحيث توزع الثروة على أساس مبدأ أن كل أجزاء السودان لها الحق في التنمية وتأتي الاولوية في الاتفاق إلى جنوب السودان كي يعيد تعمير ما دمرته الحرب الأهلية التى استمرت فوق ال20 عاماً ، وكذلك المناطق المتأثرة بالحرب كجبال النوبة والنيل الأزرق وأبيي . وتعتبر قضية الاستحواذ على حقول النفط من أعقد قضايا الخلاف خاصة فيما يتعلق بمسألة تقسيم النسب بين الحكومة المركزية وحكومة الجنوب، حيث كانت الحركة الشعبية تطالب بنسبة 67% من البترول، على أساس أن يكون لمناطق الثروات نصيب أكبر من الحكومة الاتحادية، ثم اتفق الطرفان على اقتسام عوائد نفط الجنوب مناصفة بين الطرفين بشرط عدم مطالبة الجنوبيين بأي عائد من نفط الشمال. و من أهم مبادئ البروتوكول أن يتم منح أبيى وضعاً ادارياً خاصاً تحت إشراف رئاسة الجمهورية خلال الفترة الإنتقالية على أن يدلى سكان أبيي بأصواتهم بصرف النظر عن نتيجة إستفتاء الجنوب، حول أن تحتفظ أبيي بوضعها الإدارى الخاص فى الشمال أو أن تكون أبيى جزءاً من بحر الغزال . أهم ما نصت عليه الإتفاقية هو تحديد و ترسيم حدود منطقة أبيي ، فقد تم الإتفاق على إنشاء مفوضية ترسيم حدود أبيي من خمسة عشر عضواً. وبعد مرورأكثر من ثلاثة أعوام على توقيع إتفاقية السلام الشامل و بدء المرحلة الإنتقالية نجد أن منطقة أبيى لم تخضع للوضع الإدارى الخاص حسب ما ورد فى البروتوكول لعدم تجاوز أطراف النزاع معضلة ترسيم حدود منطقة أبيى، مما يُنذر بحدوث نزاعات و صراعات مستقبلية و إهدار للموارد المالية ما لم يصل الطرفان الى حل توافقى مشترك . مستقبل .. "أبيي" : وفى محاولة لقراءة مستقبل النزاع فى منطقة "أبيي" ، تصور المحللون ثلاثة احتمالات متوقعة : الاحتمال الأول وهو أسوأ الأحتمالات يتوقع تصعيد الوضع الأمنى فى المنطقة ونشوب صراع مسلح بين الدينكا والمسيرية نتيجة الاستقطاب بين حكومة شمال السودان وحكومة جنوب السودان ودفع كل منهما بقواته الى المنطقة. أما الأحتمال الثانى هو تنامى حركات التمرد بين أوساط عرب المسيرية مما يرشحهم لحركة سياسية مسلحة تطالب بحقوقها وربما أدى ذلك الى اتحادها مع حركات أخرى فى غرب السودان أو ربما تتسع دائرة النزاع العربى-الأفريقى ومن ثم ستسعى شركات البترول الى حماية مشاريعها الأمر الذى سيؤدى الى وقوع المنطقة تحت الحماية الدولية. أما الاحتمال الثالث وهو أفضل الاحتمالات أن تنجح مساعى وجهود حكومة الوحدة الوطنية بدعم الأممالمتحدة فى السيطرة على العنف ، وتوفير الأمن والمشاريع التنموية للمواطنين، بحيث يقبل العرب المسيرية حقيقة انهم عرب الجنوب كما يقبل الدينكا نقوك هذا الواقع بعيداعن الاستقطاب السياسى ،ويصل الجانبان الى صيغة للتعايش بسلام فى منطقة أبيى فى حالة انفصال جنوب السودان عن شماله أو عدم انفصاله . ولايزال الاحتمال الأرجح مرهونا بتطورات الموقف فى هذه البقعة الثرية على الحدود بين شمال وجنوب السودان . 25/5/2008