ارتبطت صدمات النفط في الماضي بأزمات وصراعات نشبت في منطقة الشرق الأوسط، بداية بحرب 1973 ثم الثورة الإيرانية في 1979، مرورا بالاجتياح العراقي للكويت في عام 1990، وصولا إلى الغزو الأميركي للعراق في عام 2003. أما صدمة النفط الثالثة، فلا ترتبط مباشرة بأزمة أو صراع ما، وإن كان من الصعب فصلها عن التوتر القائم بين إيران والغرب فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني. فهي مرتبطة بنمو قوي وغير مسبوق شهده الاقتصاد العالمي منذ عدة سنوات، خصوصا في الهند والصين، أدى إلى تنامي الطلب على النفط. وعلى الرغم من أن أسعار النفط في الأسواق العالمية ارتفعت بنسبة تزيد عن الخمسين في المئة، منذ بداية العام الحالي، كما صعدت بنحو 3 أضعاف منذ عام 2004، إلا أن وكالة الطاقة الدولية تقول إن أسعار النفط بحساب التضخم لا تزال دون ذروة 7. 101 دولار التي سجلتها في إبريل 1980. وهكذا يمكن القول إننا نعيش في وهم كبير، أو على نحو أدق جعلونا نعيش في وهم كبير هو وهم غلاء أسعار النفط، حتى أن البعض صار يشفق على دول أوروبا وأميركا لمعاناتهم من هذا الغلاء! والحقيقة هي أن سعر البترول ارخص من سلع أخرى كثيرة. وعلى سبيل المقارنة، فإن سعر برميل المياه المعدنية الواحد المخصص للبيع يصل إلى 180 دولاراً، في حين يبلغ سعر برميل الحليب أكثر من 150 دولارا وقس على ذلك الكثير من السلع الأخرى التي ارتفعت أسعارها وهي سلع استراتيجية أيضاً كالقمح والأرز. غير أن ارتفاع أسعار النفط بدوره يطرح السؤال التالي: ما هي أسباب هذا الصعود الكبير؟ في الوقت الذي كانت الارتفاعات السابقة في الأسعار تنتج عن اضطرابات في الإمدادات، فإن الطلب من دول مثل الصين والهند والولاياتالمتحدة هو المحرك الرئيسي للزيادات الراهنة. وفي هذا السياق ذكرت وكالة الطاقة الدولية، التي تأخذ من باريس مقرا لها وتقدم النصح لست وعشرين دولة صناعية في تقريرها السنوي، أن الطلب العالمي على الطاقة سيزيد على الأرجح بنسبة 50 في المئة بين الآن وعام 2030 وأن الصين والهند تستحوذان وحدهما على 45 في المئة من هذه الزيادة. وقالت وكالة الطاقة ان الصين ستزيح الولاياتالمتحدة عن موقعها كأكبر مستهلك للطاقة في العالم، بعد عام 2010 بقليل، نظرا لأن النمو الجامح في الصين والهند يعيد رسم خريطة الطاقة العالمية. ومن المتوقع في هذا المجال كذلك إن يرتفع الطلب على النفط بنسبة 3. 1 في المئة سنويا، وهو المعدل نفسه المتوقع في تقرير الوكالة العام الماضي ليصل إلى 3. 116 مليون برميل يوميا في عام 2030 بافتراض عدم حدوث تغيرات مفاجئة. ولكن إذا نمت اقتصاديات الصين والهند بمعدلات أسرع، سيرتفع الطلب بدرجة أكبر إلى 120 مليون برميل يوميا بحلول 2030، مما يدفع الأسعار للارتفاع بصورة إضافية. وفي حين ترى الوكالة أن احتياطيات النفط العالمية كافية لتلبية الطلب المتوقع في عام 2030. إلا أن بعض الشخصيات البارزة في القطاع تشكك في إمكانية تحقيق الإنتاج لهذا المستوى مع وصول آبار النفط في بعض الدول إلى ذروة إنتاجها. وقالت الوكالة انه لتلبية الطلب العالمي على النفط يتعين استثمار 4. 5 تريليونات دولار في الفترة من 2006 إلى 2030 أغلبها على تطوير حقول نفط، واستبدال المنشآت المتقادمة. ويزيد ذلك بنسبة 26 في المئة عن التقديرات السابقة. وبصرف النظر عن السبب وراء ارتفاع أسعار النفط الاسمي، وأقول الاسمي لأن الخبراء يقولون إن سعر النفط يحتاج إلى الارتفاع إلى مستوى 135 دولاراً للبرميل لكي يصل إلى المستويات التي وصلها في السبعينات إبان صدمة النفط الأولى. فإن بعض المحللين والمعلقين السياسيين الغربيين يصرون على تجاهل هذه الحقيقة وإلقاء اللوم على الدول المنتجة، ناسين أو متناسين واقع أن الارتفاع الحقيقي الذي يلمسه المستهلك الغربي في سعر البترول إنما هو ناجم عن الضرائب الباهظة التي تفرضها الدول الصناعية على مشتقات البترول. حيث تتراوح نسب تلك الضرائب بين 60 و70 في المئة هذا إلى جانب تكلفة تكرير النفط إلى مشتقاته والأرباح التي تحققها شركات التكرير. وهكذا، فإن العبء الأكبر الذي يتحمله المستهلكون الغربيون للنفط يأتي من السياسات الضريبية التي تعتمدها دولهم وليس من الدول المنتجة التي تخضع أسعار سلعتها التصديرية الأساسية لقواعد العرض والطلب. ومع ذلك، فإن الدول المنتجة للنفط تحرص دائماً على استقرار أسعاره وتعتبر ذلك مصلحة مشتركة لها وللدول المستهلكة، ولذلك نجدها تتجاوب مع دعوات المستهلكين لزيادة الإنتاج كلما لمست اتجاهاً تصاعدياً في أسعاره. ولكن المحللين الاقتصاديين يرون أن قدرة الدول المنتجة على زيادة إنتاجها محدودة، وأن الأسعار لن تتراجع حتى لو زاد الإنتاج لأن حجم الطلب يفوق بكثير الزيادة المتوقعة. أورد موقع «الجزيرة نت» مؤخراً تقريراً بعنوان «من المستفيد من ارتفاع سعر النفط؟»، نقلا عن دراسة أكاديمية أميركية، قال فيه إن الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) لا يصلها إلا 38. 13% في أحسن الحالات من السعر النهائي للبنزين في الدول المستوردة للنفط، «أما الباقي فهو ضرائب حكومية. ومكاسب تجنيها مصانع التكرير (في دول الغرب غالبا) وشركات النقل وتجار الجملة والتجزئة»، أي أن معظم الزيادة في سعر البنزين مثلا تذهب لغير الدول المنتجة للنفط! وهذه المعلومة مهمة في ظل تبادل الدول المنتجة والدول المستهلكة للنفط الاتهامات بشأن هوية المسؤول عن الارتفاع الحالي لأسعار النفط. فدول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي. وهي ثلة الدول الصناعية المتقدمة، الأكثر استهلاكا للنفط العالمي طبعا، ما برحت تصب جام غضبها على أوبك باعتبارها كارتلا أو احتكار قلة، كما يقال في علم الاقتصاد، يهيمن على السوق النفطي العالمي ويحبس الإنتاج لكي يرفع سعر برميل النفط. ومن هنا جاءت مناقشة خطة في مجلسي الشيوخ والنواب الأميركيين مرارا، آخرها في بداية صيف 2007، لمحاكمة دول منظمة أوبك بتهمة الاحتكار والتلاعب بالأسعار. وتجد الكتاب ومراكز الدراسات والأبحاث في الدول الغربية يفسرون ارتفاع سعر النفط على المدى الطويل بالبنية الاحتكارية للسوق (أي بوجود أوبك)، ويفسرون تذبذبات المدى القصير بالعوامل العرضية الطبيعية أو السياسية. مثل الأعاصير التي تضرب السواحل في مناطق إنتاج النفط، أو ارتفاع درجة الحرارة نسبيا في شتاء عام 2007 مما قلل الطلب على النفط وبالتالي قلل من سعره، أو مثل التوتر مع إيران وفي أماكن مختلفة من العالم مما أوجد توقعات حول إمكانية انقطاع إمدادات النفط وأدى بالتالي إلى ارتفاع سعره في العقود الآجلة. والحقيقة أن دول أوبك تقف على 75% من احتياطي النفط العالمي المعروف، ولكنها تنتج فقط 40% من النفط العالمي، أي أنها تنتج أقل من طاقتها القصوى، وينتج الباقي دول نفطية غير أعضاء في أوبك مثل الولاياتالمتحدة نفسها وكندا والنرويج وبريطانيا والمكسيك والصين وروسيا وكازاخستان، مع العلم أن كلفة الإنتاج لديها أعلى منها لدى دول أوبك. ولكن الولاياتالمتحدة، وقد كانت ثالث أكبر منتج للنفط العالمي عام 2004 مثلا، هي أكبر مستورد للنفط في العالم أيضا بسبب الكميات المهولة التي تستهلكها منه. فإنتاج النفط لا يعني بالضرورة تصديره. وإذا كانت منظمة أوبك تمثل كارتل للباعة يسيطر على حوالي 40% من السوق، فإنها تقف في مواجهة احتكار آخر للمشترين يتمثل في منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، التي تبتاع دولها أكثر بكثير من 40% من النفط العالمي. إن الدول الصناعية الكبرى تنادي دائماً باتباع سياسة اقتصاد السوق بمعنى ترك قوى السوق هي التي تحدد ثمن السلع من دون تدخل من الدول، فلماذا تناقض نفسها إذا وتطلب من الدول المنتجة للنفط التدخل لكبح جماح الأسعار من أجل مصالحها. وتستهجن قيام أي من الدول المستوردة لمنتجاتها بفرض أي قيود قد تلحق الضرر بصادراتها. هذا منطق معوج يحتاج إلى تصحيح يراعي المصالح المشتركة لكلا الطرفين: الدول المنتجة للنفط والدول المستهلكة له من دون إجحاف بحق أي منهما.