لأول مرة في العصر الحديث يشارك الملايين من المواطنين العرب في صنع التاريخ مباشرة، وبغير وسطاء من القادة السياسيين المحترفين، أو زعماء الأحزاب التقليديين. هكذا بدأ الشعب التونسي انتفاضته الثورية التي بدأت في بلدة صغيرة، وسرعان ما امتدت إلى كل البلدان التونسية مظاهراته الحاشدة لإسقاط النظام الاستبدادي لبن علي رئيس الجمهورية، الذي اضطر إلى الفرار مغادرا تونس إلى الأبد، بعد أن سقطت حصونه المشيدة التي قهر بها الشعب عقودا طويلة من السنين. وسرعان ما انتفض الشعب المصري في 25 يناير بقيادة طليعة الثوار من الشباب والذين التحمت بهم ملايين المصريين، رافعين الشعار الذي سرعان ما أصبح شعارا عالميا الشعب يريد إسقاط النظام. ولم يجد الرئيس السابق مبارك مفرا سوى أن يعلن تنحيه عن السلطة، وتسليمها إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة. غير أن الفيضان الثوري الشعبي أصر على أن يحاكم الرئيس السابق محاكمة جنائية علنية تذاع على شاشات التلفزيون. وهكذا أتيح لملايين المواطنين العرب أن يشاهدوا في الزمن الواقعي أول محاكمة في العصر الحديث لرئيس جمهورية سابق، وهو قابع في قفص الاتهام يواجه تهما بالغة الخطورة. غير أن العاصفة الثورية لم تقف عند حدود تونس ومصر، فسرعان ما اجتاحت اليمن وليبيا وسوريا. حيث خرجت الجماهير مطالبة بإسقاط النظام وإجبار رؤسائها على الرحيل. وإذا أضفنا إلى هذا المشهد الانتفاضات في البحرين، و المظاهرات الاحتجاجية في كل من المغرب والجزائر والأردن، لأدركنا أن الدول العربية المعاصرة بكل أنماطها المتعددة جمهورية كانت أو ملكية، أصبحت تقف أمام محكمة التاريخ! وترد الأزمة العميقة التي تمر بها الدول العربية المعاصرة إلى أسباب شتى، سياسية واقتصادية واجتماعية، وفي مقدمة الأسباب السياسية أن النظم السياسية العربية مارست القمع السياسي ضد الجماهير، وقضت على مبدأ المشاركة السياسية، لأنها ألغت عملية التعددية السياسية، وعوقت قيام الأحزاب السياسية وحدت من حريتها في الممارسة، مما أدى إلى أن الطبقات السياسية الحاكمة في كل البلاد العربية أصبحت تمارس السلطة المطلقة بغير حسيب ولا رقيب. وقد أدت عملية احتكار عملية صنع القرار لأهل الحكم ومن لف لفهم من أصحاب المصالح المتحالفين معهم، إلى اهدار حقوق الجماهير في التعبير الحر الطليق، وفي الدفاع عن مصالحهم المشروعة، وفي حقهم في المشاركة السياسية، كما هو الحال في أي دولة متقدمة معاصرة. ولم يدرك أعضاء الطبقات السياسية العربية الحاكمة أن التاريخ قد تغير تغيرا جوهريا، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والذي كان رمزا على انهيار الشمولية كنظام سياسي، قام على أساس قمع الجماهير ومصادرة حرياتهم. وقد أدى هذا التطور التاريخي إلى هبوب رياح الديمقراطية على مستوى العالم بعد سقوط الشمولية. وقد أدى الجمود الإدراكي للنخب السياسية العربية الحاكمة إلى عدم القراءة الصحيحة للواقع السياسي العربي، والذي يزخر بالسخط الشعبي نتيجة للقهر السياسي المعمم، وللواقع الاقتصادي والاجتماعي المتردي. وهذه النخب السياسية الحاكمة حاولت أن تقف ضد التيار المتدفق للديمقراطية على مستوى العالم بطرق شتى بعض هذه النظم السلطوية محت المجتمع المدني محوا كاملا، وأخرست كل الأصوات المعارضة. وهي تناور مناورة خاسرة مع النظام العالمي، كي تتهرب من استحقاقات التحول الديمقراطي. وهذا التحول تفرضه في الواقع ضغوط دولية، ومطالب داخلية على حد سواء. ذلك أن المجتمع العالمي الآن بدوله ومؤسساته المدنية التي أصبح لها ثقل شديد، يضغط لتحقيق الديمقراطية. وفي الوقت ذاته نتيجة لتطور المجتمعات وللثورة الاتصالية الكبرى وفي قلبها شبكة الإنترنت، تتزايد بعنف مطالب الداخل في كل بلد عربي، من أجل تحقيق التحول الديمقراطي الذي يكفل زيادة رقعة المشاركة السياسية. ومعنى ذلك أن جوهر أزمة السلطة في هذا الجانب هو ممانعة السلطة العربية في تحقيق مبدأ المشاركة السياسية، أو التوسيع الجزئي لهذه المشاركة، مما لا يشبع الاحتياجات الديمقراطية الأساسية للجماهير. ومن ناحية أخرى تبدو أزمة السلطة واضحة جلية في غياب سياسات فعالة لتحقيق العدالة الاجتماعية. وهذا بذاته موضوع معقد، لأنه يمس أوضاعا متعددة، فهو يتعلق أولا بالخريطة الطبقية في كل بلد عربي، حيث نجد الفجوة عميقة بين الطبقات العليا والطبقات الدنيا من ناحية، وحيث نلاحظ تدهور أحوال الطبقات الوسطى من ناحية أخرى، ومعنى ذلك أن هناك خللا جسيما في أنماط توزيع الثروة القومية ينعكس بالضرورة على نصيب كل طبقة من الدخل القومي. وقد أدى التفاوت الطبقي الكبير إلى الثراء المفرط للقلة على حساب الفقر المدقع لطبقات اجتماعية واسعة، وقد انعكس هذا الوضع على الواقع السياسي، بحيث نجد فجوة مصداقية بين السلطة مهما كان خطابها وبين الجماهير، التي لا تلمس في واقع حياتها اليومية أثرا لوعود السلطة في الحرية والعدالة الاجتماعية. إن تأمل المشهد السياسي العربي الراهن لابد له أن يوصلنا إلى نتائج بالغة الأهمية. وأخطرها جميعا أن الجماهير العربية قد كفرت بالسلطة التي لم تف بوعودها في التحول الديمقراطي، أو تحقيق العدالة الاجتماعية، كما أنها كفرت أيضا بالأحزاب السياسية، وبالزعماء التقليديين الذين فشلوا في التعبير عن مصالحها تعبيرا حقيقيا، ولم ينجحوا في إجبار السلطة على تغيير سياساتها الاقصائية. ولذلك قررت الجماهير قرارا لا رجعة فيه، وهو أن تأخذ أمورها بأيديها، وأن تثور من خلال حشود جماهيرية هائلة، لإسقاط النظم السياسية الفاسدة، وإقامة نظم سياسة جديدة على أساس تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية، والحفاظ على الكرامة الإنسانية. هذه العملية التاريخية الثورية، ونعني الانتقال من عصر السلطة القاهرة إلى عصر الجماهير الشعبية ما زالت في بداياتها، وهي إن نجحت نجاحا نسبيا في تونس ومصر، إلا أنها مازالت متعثرة في ليبيا واليمن وسوريا. ترى هل يتاح لنا أن نشهد اكتمال ثورة الجماهير، أم أن المقاومة الشرسة التي تبديها النخب السياسية العربية الحاكمة قد تؤدي إلى إجهاض هذا التحول التاريخي الخطير؟ نقلا عن جريدة الأهرام