بات تخلي الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي عن منصبه و فراره من البلاد فاتحة لعصر جديد لفرض إرادة الشعوب العربية التي لم تنتفض في تاريخها الحديث سوي لمقاومة الاحتلال الأجنبي و للسعي لتحقيق أمل الوحدة العربية أمام المد الاستعماري الذي هدد بتقسيم العالم العربي و طمس هويته. ما بدأ في تونس انتشر في العالم العربي عندما أصبحت فكرة ازالة نظام أوغل في استبداده وقمعه للشعب ممكناً من الممكنات التي طالما استبعدتها الشعوب العربية بعد أن توطنت في ثقافتها السياسية والاجتماعية النظم الشمولية، وافتقرت إلي ممارسة حقيقية لحقي الحرية والاختيار. وعلي الرغم من أن الثورات لا يتم استيرادها ومن أن لكل ثورة سماتها و ظروفها، نجد أن الشعوب العربية التي ألهمتها الثورة التونسية بدأت بالفعل تتحدث و باحماع عن المطالبة بديمقراطية حقيقية وبعدالة اجتماعية تنهي عصر الفساد الذي أفقر الشعوب وبحريات تفعل مفهوم المواطنة بحيث تصبح لفكرتي حقوق وواجبات المواطن مصداقية تساهم بالفعل في بناء المجتمع بناء مدني حديث. مطالب عربية واحدة هذه المطالب تكررت في نموذج الثورة المصرية التي انتفض فيها الشباب وطالبوا بتغيير نظام دام ثلاثين عاماً وهو ما تحقق بالفعل في الحادي عشر من فبراير باعلان الرئيس المصري السابق حسني مبارك عن تنحيه عن الحكم. ومع اختلاف الحالتين التونسية والمصرية، ظلت المطالب الرئيسية للشعبين التونسي و المصري واحدة وهي تغيير النظام الحاكم بكل رموزه من شمولية وفساد وقمع وغياب للحريات. وهي نفسها المطالب ذاتها التي طالبت بها الشعوب في كل من الجزائر والأردن واليمن والعراق والمغرب وليبيا والسودان. وفي الوقت الذي كانت أنظار العالم موجهة لشعب مصر في انتفاضته، بدأت تدابير في نظم الدول العربية المختلفة للعمل علي احتواء انتفاضات مشابهة وهو ما رأيناه عندما قررت الحكومة السورية حجب شبكة الانترنت، و قرر الرئيس اليمني الاعلان عن عدم نيته الترشيح لفترة رئاسية جديدة بعد انتهاء فترة ولايته الحالية عام 2013 غير أن ما أنجزه الشعب في تونس ثم في مصر أصبح يؤكد أن تلك التدابير لن تكون ذات جدوي فقد تكثفت المظاهرات في عدة مدن عربية مؤخراً مطالبة باسقاط نظام بلادها علي غرار النموذج المصري. فقد شهدت الجزائر مظاهرات في ميدان الأول من مايو مطالبة باسقاط نظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وهي المظاهرات التي دعا إليها حزب "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" و"الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان" وجمعيات أخري غير معتمدة. حركة شباب 3 فبراير وفي اليمن، شهدت صنعاء دعوة من حركة شباب 3 فبراير للتظاهر يوم الخميس الماضي أمام جامعة صنعاء ردد فيها نحو 20,000 متظاهر هتافات تندد بالاعتقالات وبالظلم والفساد وقمع حرية التعبير. وأصدر المجلس الأعلي لاتحاد قوي التغير الديمقراطي بياناً استنكر فيه محاولة الرئيس اليمني علي عبد الله صالح للتقليل من أهمية مطالبات المحتجين، وطالب البيان الرئيس سرعة نقل السلطة بشكل رسمي وسلس وتسليمها إلي الشعب بما يضمن أمن الوطن. كما دعا البيان أحزاب المعارضة المعروفة بكتلة اللقاء المشترك إلي عدم الوقوع في فخ "التحاور الثنائي" مع السلطة لأن هذا الحوار يفصلها عن جماهير الشعب. وتلت هذه المظاهرات، مظاهرة "يوم الغضب" في العاصمة اليمنية صنعاء في الرابع من فبراير تحت شعار "الخروج الكبير" شارك فيها عشرات الآلاف من المطالبين برحيل الرئيس علي عبدالله صالح شهدت مواجهات بين مؤيدين و معارضين للنظام انتهت بإصابة شخصين واعتقال 30 شخصاً. وطالبت أحزاب المعارضة "تكتل اللقاء المشترك" بالتزام حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم بإعطاء ضمانات حقيقة لتنفيذ اتفاق فبراير عام 2009 ، ووقف سياسة التجويع والإفقار، والحفاظ علي المؤسسة الأمنية والعسكرية كمؤسسة وطنية وإبعادها عن الهيمنة الأسرية، وإلغاء جميع الإجراءات الانفرادية من قبل الحاكم والعودة لاتفاق فبراير . كما تجمع نحو 300 من الطلاب المتظاهرين المناهضين للحكومة في جامعة صنعاء صبيحة اليوم التالي لتنحي مبارك سرعان ما لحق بها آلاف المتظاهرين معلنين أن ثورة يمنية ستلي الثورة المصرية. وتجمع المتظاهرون في ميدان التحرير بقلب العاصمة صنعاء ومعهم نواب المعارضة البرلمانية "اللقاء المشترك" مرددين هنافات مثل "الشعب يريد اسقاط النظام" و"أمس في تونس واليوم في مصر، وبكرا اليمن يفك الأسر". وقالت أحزاب اللقاء المشترك المعارضة في بيان لها ان "ما حدث بمصر أعظم ثورة سلمية يشهدها العالم المعاصر" مؤكدين أنها ستساهم في "رسم ملامح المستقبل لعالم عربي جديد". جمعة غضب جنوبي ودعا متظاهرون في مدينة عدن جنوب اليمن إلي "جمعة غضب" للتعبير عن مطالبهم والتي علي رأسها الانفصال عن الشمال. وخرج متظاهرون بالآلاف مرددين "ارحل، ارحل يا محتل". وأعلن الحراك الجنوبي المطالب بالانفصال دعمه لدعوة الشباب الجنوبي علي الفيس بوك لتنظيم "يوم غضب" يوم الجمعة في 11 فبراير. كما شهدت مدينة زنجبار شرق عدن، تظاهر المئات بدعوة من الزعيم طارق الفضلي ارتدي فيها المتظاهرون أكفانا تعبيرا عن الاستعداد للموت. وكما قوبلت مظاهرات صنعاء بتدخل من أفراد الأمن و الاعتقالات، تم اعتقال عبد العزيز بهشوان، نائب رئيس الحراك الجنوبي في حضرموت، وخمسة ناشطين آخرين في محافظة لحج يوم جمعة الغضب. وعلي الرغم من مبادرة الرئيس اليمني بالاعلان عن عدم ترشحه لفترة رئاسية جديدة حيث قال في خطاب له "لا تمديد ولا توريث ولا إعادة لعقارب الساعة"، وعلي الرغم من مبادرته بفتح ملفات الفساد، الا أن ردود الأفعال الرسمية الداخلية حاولت أن تقلل من حجم المظاهرات حيث نفي وزير الخارجية الدكتور أبو بكر القربي أن تكون اليمن علي شفا أزمة سياسية، وقال لشبكة فرانس 24 الفرنسية أن الحكومة تعطي المواطنين حق التظاهر، وأكد أن "أهم شيء في اليمن علي عكس الحكومتين التونسية والمصرية هو أن الحزب الحاكم لم يقطع العلاقات أبداً مع المعارضة". وأشار القربي إلي أن هناك بالفعل حوارا مفتوحا مع المعارضة بصدد امكانية التمثيل النسبي واعتماد اللامركزية الإدارية ومنح سلطات أكبر للحكم المحلي. من ناحيته، أكد رئيس الوزراء اليمني، علي مجور، لشبكة سي.ان.ان الإخبارية أن سيناريو الانتفاضة الشعبية في مصر لن يتكرر في اليمن قائلاً "اليمن ليس تونس أو مصر فاليمن لديه وضع مختلف.. اليمن بلد ديمقراطي عبر كل العقود، فقد أجريت انتخابات، ولهذا فالنظام ديمقراطي". انتقادات للنظام ويحكم الرئيس اليمني علي عبدالله صالح اليمن منذ 32 عاماً شغل خلالها منصب رئيس اليمن الشمالي ثم رئيس للجمهورية المتحدة بعد الوحدة مع اليمن الجنوبي عام 1990 ويحظي حزب المؤتمر الشعبي العام، الحزب الحاكم، بأغلبية كبيرة في البرلمان ودعم رجال الأعمال وزعماء القبائل، و يتهمه الكثيرون بالوقوف وراء الفساد السياسي و المالي و الإداري و ظاهرة المحسوبية وتركيز السلطة لا سيما داخل قبيلة سنحان التي ينتمي إليها الرئيس اليمني. ويعاني اليمن أزمات داخلية متعددة علي رأسها الصراع مع الحوثيين في الشمال و الصراع مع الانفصاليين في الجنوب فضلاً عن مكافحة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب وذلك في الوقت الذي تسعي فيه المعارضة إلي تحقيق اصلاحات سياسية ودعا فيه النظام إلي حوار وطني منذ عام 2009 لم ينجح حتي الآن في التوصل إلي صيغة توافقية. وتطالب المعارضة بتعديل المادة 212 من الدستور، والتي تخص الفترة الرئاسية، وتحدديها بدورتين انتخابتين. كما أن هناك مشروعا قدم للبرلمان بتخفيض الفترة الرئاسية إلي خمس سنوات. و بالإضافة إلي المادة 212، طالبت المعارضة بتعديلات دستورية متعلقة بقضايا التمثيل النسبي، وتعديل قانون الانتخابات، وتعديلات تتعلق باللامركزية، وصلاحيات أوسع للحُكم المحلي يتم فيها انتخاب المحافظين مباشرة. وبالإضافة إلي المشاكل السياسية والأمنية، يعاني اليمن مشاكل اقتصادية جمة علي رأسها الفقر حيث يعيش ما يقرب من نصف سكان اليمن البالغ عددهم نحو 23 مليون نسمة علي أقل من دولارين في اليوم. ويحتل اليمن المرتبة 138 في مؤشر الأممالمتحدة للتنمية البشرية من أصل 179 دولة. كما يعاني اليمن مشكلة البطالة التي تصل نسبتها بين الشباب إلي 50 بالمائة. علي الرغم من محاولات النظام اليمني عدم رؤية انتفاضة شعبه علي أنها قد تعصف به علي غرار ما حدث في تونس و مصر، إلا أن كل المؤشرات باتت توحي بأن اليمن ربما سيلي مصر بالفعل في استكمال مسيرة ثورة الشعوب العربية خاصة أنه يعاني هشاشة داخلية فجرتها رغبة الجنوبيين في الانفصال وموجات تمرد الحوثيين الذين يسعون لبسط سيطرتهم علي محافظات الشمال.