أثارت الديون الحالية وحالة الركود والحروب والتناحر السياسي، الشعور بالاكتئاب لدى الأميركيين، ودفعتهم إلى التفكير بأن منافسين أكثر قوة في الخارج، سرعان ما سوف يحلون محلهم في المكانة التي يشغلونها. إلا أن هذا خوف أميركي قديم، وغير محتمل التحقق. في الثلاثينيات من القرن الماضي، شكلت فترة «الكساد الكبير» بصورة مفترضة، نهاية للرأسمالية الأميركية المطلقة. وقد تم تضخيم التصوير الكاريكاتيري لعقد الخمسينات، على أنه فترة الامتثال المكارثية والتابعين المتزلفين من رجال الشركات. في أواخر الستينات، دفعت عمليات اغتيال جون وروبرت كيندي ومارتن لوثر كينغ الابن، جنباً إلى جنب مع حرب فيتنام، إلى بروز ثقافة هيبية مضادة كان يزعم أنها على وشك أن تحل محل المؤسسة الأميركية الفاسدة. صدمات النفط وخطوط الغاز وفضيحة «ووترغيت» والمناطق الصناعية الجديدة المقفلة، قيل إنها دليل على أميركا الآفلة في عصر ما بعد الصناعة، خلال عقد السبعينيات. في الوقت نفسه، فإن الدول الأخرى، حسبما قيل لنا، كانت تبذل قصارى جهدها. في أواخر الأربعينيات، ومع صعود الاتحاد السوفييتي خلال مرحلة ما بعد الحرب، الذي سحق جيش هتلر على الجبهة الشرقية خلال الحرب العالمية الثانية، وعدت الشيوعية ب«إنسان جديد» في الوقت الذي اجتاحت أوروبا الشرقية. تولى «ماو تسي تونغ» مقاليد السلطة في الصين، وألهم الثورات الشيوعية من كوريا الشمالية إلى كوبا. وكان التخطيط المركزي للدولة سيحل محل الإجحاف وعدم الكفاءة للرأسمالية على الطريقة الغربية. إلا أنه بعد مرور نصف قرن، شهدت الشيوعية إما انفجاراً داخلياً أو أنها تم تجاوزها في معظم أنحاء العالم. وبحلول أوائل الثمانينات، وصفت رأسمالية الدولة في اليابان والتركيز على الجماعة بدلاً من الفرد، باعتبارها التوازن المثالي بين القطاعين الخاص والعام. وتجاوز قطاع الشركات في اليابان باستمرار، النمو في الاقتصاد الأميركي. وبعد ذلك، خلال عقد التسعينيات، أدت فقاعة العقارات والافتقار للشفافية المالية، إلى انهيار أسعار العقارات وحالة ركود عام. وظل السكان اليابانيون الذين يتقلصون في العدد والسن، والذين تقودهم حكومة متكتمة، يجاهدون منذ ذلك الحين لاستعادة جاذبيتهم القديمة. في بداية القرن الحادي والعشرين، حظي الاتحاد الأوروبي بالإشادة كنموذج غربي سليم للمستقبل. وارتفع اليورو عالياً أمام الدولار، ومارست أوروبا «قوة ناعمة» متطورة، في حين وجهت السخرية إلى منطق رعاة البقر الأميركي، الذي دفعنا إلى الحروب في أفغانستان والعراق. وجرت المقارنة بين نظام «فوائد من المهد إلى اللحد»، ونظام «كل شخص مسؤول عن نفسه» المتبع في أميركا. والآن تترنح أوروبا متنقلة من أزمة إلى أخرى، وقد أثبت اتحادها غير الديمقراطي، عندما يقترن باستحقاقات الاشتراكية، أنه غير قابل للاستدامة. وتظهر أعراض النظام الأوروبي المتحجر في كل شيء، من السكان الذين يتقلص عددهم، والإلحاد المتزايد، إلى عدم القدرة على إدماج المهاجرين المسلمين، أو حشد قوات عسكرية جديرة بالثقة. وفيما ندخل هذا العقد الجديد، فإننا حالياً نتلقى دروساً حول أن الصين سرعان ما سوف تكون العملاق العالمي. فاقتصادها الآن يعتبر الثاني بعد الولاياتالمتحدة، ولكن بمعدل نمو أسرع كثيرا وفوائض ميزانية، وليس بركام من الديون. يبدو أن البعض لا يذكرون أن التوترات الاجتماعية المتصاعدة والروح التجارية والتدهور البيئي والمسؤولين الحكوميين، ينتمون إلى دولة القرن التاسع عشر، أكثر من انتمائهم إلى أمة تعود إلى دولة القرن الحادي والعشرين. إن هناك عارضين لكل هذا النحس يتواصلان على مدى العقود الماضية. أولاً؛ تخوض أميركا عادة نوبات دورية من الشكوك الذاتية العصبية، لا لشيء إلا لكي تستيقظ وتتخلص منها. والواقع أن الأميركيين المثقلين بالديون، مستعدون بالفعل للانضباط والتقتير المالي كترياق لحالة التبذير في الماضي. ثانياً؛ يتسم التراجع بأنه أمر نسبي ولا يحدث في فراغ. وفي الوقت الذي تتدفق القيم الاقتصادية والعلمية الغربية من أوروبا والولاياتالمتحدة، فمن المفهوم أن البلدان النامية، مثل الصين أو الهند أو البرازيل، يمكن أن تنطلق بشكل ملائم إلى القرن الحادي والعشرين. ولكن بعد قول ذلك، فإن القوة الوطنية ؟ تزال موجودة في الصلابة الكامنة لدى الأمة المريضة، في ديمغرافيتها وثقافتها ومؤسساتها، وليس في الأعراض المؤقتة للصحة المعتلة. وفي هذا الصدد، فإن أميركا تدمج المهاجرين، وتستوعب الأجناس والعرقيات بطريقة لا يمكن لأوروبا تحقيقها. فكل من روسيا والصين واليابان، ببساطة ليست معدة ثقافياً للتعامل مع الملايين الذين لا يبدون من الجنس السلافي أو الصيني أو الياباني. لقد اختبر الدستور الأميركي على مدار 223 سنة. وعلى النقيض من ذلك، فإن الصين والاتحاد الأوروبي والهند واليابانوروسيا وكوريا الجنوبية، ليست لها أصول دستورية تمتد لأكثر من 60 عاماً. وكانت آخر مرة قتل الأميركيون بعضهم البعض بأعداد كبيرة، منذ ما يقرب من قرن ونصف القرن، بينما رأى منافسونا الملايين من مواطنيهم يتعرضون للدمار خلال الحرب الأهلية والقتال الضروس، خلال القرن الحالي وحده. باختصار، لا تقاس صحة أمة ما بنوبات الركود والشكوك في الذات، ولكن من خلال أسسها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، التي حظيت بالاحترام طويلاً. إن أميركا التي لا تزال تبدو عليها ملامح المرض، هي رغم ذلك، متنامية ومستقرة ومتعددة الأعراق، وشفافة وفردانية وناقدة للذات، وتحترم القدرات الفردية.. وفي الواقع، فإن جميع منافسيها الأصحاء تقريباً، لا يتسمون بهذه الصفات. * نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية