اللون الرمادي هو جميع درجات اللون بين الأبيض والأسود بنسب متفاوتة، وجاءت تسميته منسوبا إلى الرماد؛ وهو ما يتبقى من احتراق الفحم أو المواد العضوية، ويرمز به للاكتئاب والحزن والوحدة، ولأنه لا أبيض ولا أسود؛ فهو يمثل عدم الوضوح والضبابية إن وصفنا به لون الحالة في مجتمع ما في وقت ما، ومن المؤكد أن حضرتك تستشعر من لون الأيام التي نعيشها ذات الإحساس بذات اللون الرمادي الكئيب. وللألوان في حياتنا استخداماتها في وصف الحالة التي نمر بها، فثلاثون الأعوام التي مرت من أعمارنا ومبارك يحكم بلادنا؛ كانت سوداء في أعين البعض، وبيضاء مثمرة في حياة آخرين، فإذن لم تكن رمادية غير واضحة؛ بل كانت واضحة وضوح اللونين الأبيض والأسود.
ومرت سنوات العمر، وولدت ثورة مصر في يناير 2011، كانت ثورة كالياسمين؛ بيضاء شابها لون الدم الأحمر بظلال خفيفة، إذا ما قورنت بثورتي ليبيا وسوريا الحمراوين، وتوقعنا أن يزداد لون الثورة الأبيض نصوعا وإشراقا، وتفاعلت أدمغتنا ، وتفاءلت أفكارنا فخرجت حافلة بالأحلام الوردية والآمال الخضراء والسماء الصافية الزرقاء، لكن.. ما كل ما تمنيناه أدركناه، فالأشهر التسعة عشر التي حكمنا فيها المجلس العسكري، حولت لون الثورة تدريجيا نحو الرمادي المائل إلى السواد، وكل حين تُختلَق حادثةٌ تضيف إلى اللون الداكن بضعَ قطرات من لون الدم الأحمر، فاشتبه اللون علينا، وضاقت به أنفاسنا، وتضببت حياتنا وانعدمت الشفافية من وجودنا إلى درجة العتامة، والرمادية إلى درجة السواد، وزاد من سواد الحالة انتشار السلاح في أيدي بلطجية العهد السابق، الذين انتشروا بدورهم في كل مناحي حياتنا، وشاعت الفوضى والعشوائية بلونيهما الرمادي.
ومرت أيام تلك المرحلة ثقيلة كئيبة مملة، لا يهوّن من رماديتها إلا عزاؤنا لأنفسنا بأن رأس النظام السابق في السجن، كان هذا العزاء بمثابة بقعة بيضاء في الحالة الرمادية الضبابية، واستبشرنا خيرا بإتمام انتخابات مجلسي الشعب والشورى،
واللجنة التأسيسية التي ستضع دستور مصر، وخلاص بقى.. سيبدأ اللون الرمادي في الانحسار، لكن ما كل ما تمنيناه أدركناه، فمجلس الشعب حُلّ، واللجنة التأسيسية حُلّت، واختفت البقعة البيضاء تحت ثقل اللون الرمادي.
وانتخب الشعب للمرة الأولى رئيسه المدني، وبرغم تحقق هذه المعجزة التي لم نكن نجرؤ حتى أن نحلم بها لستين عاما؛ فقد ازداد اللون الرمادي، فكلما ظهرت في الأفق بارقة أمل بيضاء، تبرق على استحياء؛ اختفت مع ثقل وطأة وعتامة اللون الرمادي المُسودّ، ولما كان اللون الرمادي – كما ذكرت – لا يمثل الشفافية والوضوح، فقد كان التعتيم والغموض هما سِمَتيْ المرحلة، لا أحد يفهم شيئا، ولا أحد يستطيع أن يحقق أي خطوة إلى الأمام، ودائما كان (الطرف الثالث) هو العدو الغامض الذي يحاربنا ولا نراه ولا نعرفه، ونعلّق على (شماعته) فشل الساسة، وعجز القيادة، وتدهور الاقتصاد، وموت السياحة، وتدني الاحتياطي الدولاري، وسقوط البورصة، ووو..
ولكن المارد المصري خرج أخيرا من القمقم الذي ظل حبيسا فيه لستين عاما، وأصبح سبعون مليونا من المصريين يتحدثون في السياسة التي كان محرّما الحديث فيها، ولن يقبل الشعب مرة أخرى الحلول الوسط المنبثقة عن اللون الرمادي الضبابي الكئيب، وبِغَضّ النظر عن رأيي أو رأي حضرتك في الإعلان الدستوري، وبغض النظر عن رأيي أو رأي حضرتك في الدكتور مرسي أو الإخوان أو المعارضة أوحتى عهد مبارك، ألا ترى معي حضرتك أن خروج الإعلان الدستوري في هذا التوقيت بالذات هو إعلان لنهاية المرحلة ذات اللون الرمادي ؟ أوليست النقاط توضع الآن فوق الحروف لتُسمّى الأشياء – مهما كانت – بمسمياتها الأصلية، فيبدو لونها الحقيقي؛ أبيض أو أسود ؟ أكرر.. بغض النظر عن اعتبارات رمزية اللونين عند كل إنسان، فقد يكون ما أعتبره أنا أسود، عند حضرتك أبيض، والعكس بالعكس، ولا يعني اختلاف رأيينا أننا منقسمَين، المهم أن نبتعد قدر إمكاننا عن اللون الرمادي، .. واسلمي يا مصر.