يعد التسامى لدى فرويد هو الآلية النفسية التى تعتمد عليها العمليات المشتركة فى الإبداع الفنى. ويرى الكاتب الإنجليزى موم أن التسامى هو الميزة الكبرى للكاتب، لأنه عندما يتعسه شىء ويصيبه بالبؤس والشقاء يستطيع أن يضع الأمر كله فى قصة، ويحصل بذلك على قدْر مدهش من الراحة والهدوء. ويمكننا على سبيل المثال رصد محاولات الشاعر عنترة التسامى على عقدة النقص التى سببها له سواد لونه، حتى إنه قد تحدث عنها فى تسعة عشر موضعا من ديوانه الصغير. وأول القضايا التى ارتبطت لدى الشاعر بسواد لونه هى قضية نسبه، وقد عالجها فى خمسة مواضع، رأى فيها أن ضِعَة نسبه لم تمنعه من أن يكون أفضل من أعدائه، وأن الذين يعيبونه بنسبه فى المساء هم الذين يحتمون به فى الصباح، وأنه ينتسب للسيف والرمح وهو فارسهما المغوار، أو أنه ينتسب لأفعاله التى تحيل سواده بياضا. وقد جاءت الأبيات كلها مصداقا لقول إدلر إن المصاب بعقدة النقص يشعر بأن المجتمع سوف يتجاهله ويقلل من شأنه، ولهذا فإن عليه أن يسبقهم ويريهم مدى أهميته: ما ساءنى لونى واسم زبيبة إن قصَّرت عن همتى أعدائى ينادونى وخيل الموت تجرى محلك لا يعادله محلُ وقد أمسوا يعيبونى بأمى ولونى كلما عقدوا وحلُّوا وأنا الأسود والعبد الذى يقصد الخيل إذا النقع ارتفع نسبى سيفى ورمحى وهما يؤنسانى كلما اشتد الفزع وإن يعيبوا سوادى فهو لى نسبٌ يوم النزالِ إذا ما فاتنى النسبُ سوادى بياضٌ حين تبدو شمائلى وفعلى على الأنساب يزهو ويفخرُ وقد أعجب عنترة بالمقابلة بين سواد لونه وبياض أفعاله فكررها فى ثلاثة مواضع أخرى: تعيرنى العدى بسواد جلدى وبيض خصائلى تمحو السوادا وإن كان لونى أسودا فخصائلى بياض ومن كفى يستنزل القطرُ شبيه الليل لونى غير أنى بفعلى من بياض الصبح أسنى وقد استمرت المقارنة بين سواده وأفعاله الكريمة فى موضعين آخرين ولكن دون المقابلة اللونية بين السواد والبياض، وإن كانت حدة الشعور بالنقص تظهر فيهما بوضوح وفقا لتصنيف إدلر، حيث يقرر الشاعر أنه أمام مشكلة غير مستعد لمواجهتها، مؤكدا قناعته بعدم قدرته على حلها: لئن أكُ أسودا فالمسك لونى وما لسواد جلدى من دواء ولكن تبعد الفحشاء عنى كبعد الأرض عن جو السماء يعيبون لونى بالسواد وإنما فعالهم بالخبث أسود من جلدى وقد صرح الشاعر فى موضعين بأن مشكلته الحقيقية تتمثل فى موقف حبيبته عبلة من سواد لونه، وهذا يردنا إلى دائرة التسامى الفرويدى مرة أخرى، حيث يستبدل الإنسان بأهدافه القريبة أهدافا أخرى تمتاز بأنها أرفع قيمة من الناحية الاجتماعية وبأنها غير جنسية: دعنى أجِدُّ إلى العلياء فى الطلب وأبلغ الغاية القصوى من الرتبِ لعل عبلة تَضْحَى وهى راضيةٌ على سوادى وتمحو صورة الغضبِ ألا يا عبلُ قد عاينتِ فِعْلى وبان لك الضلالُ من الرشادِ وإن أبصرتِ مثلى فاهجرينى ولا يلحقك عارٌ من سوادى وقد ابتدع الشاعر خمس مبررات شعرية لسواده، فهو لون فى العيون، والدر الأبيض يكسوه الصدف الأسود، وهو ثوب حداد على أعدائه الذين يقتلهم، وهو سواد الليل الذى لولاه ما طلع الفجر، وهو اللون الذى يطفئ نار الحرب الحمراء بالنصر على الأعداء، وهذا الابتداع يردنا إلى دائرة التسامى أيضا، حيث يؤكد مصطفى سويف أن التسامى يؤدى إلى إظهار عبقرية وامتياز فى الفن أو فى العلم أو فى غيرهما: وما وجد الأعادى فىَّ عيبا فعابونى بلونٍ فى العيونِ وإن يعيبوا سوادا قد كُسِيتُ به فالدر يستره ثوبٌ من الصدفِ وأنا المنيَّةُ وابن كلِّ منيِّةٍ وسواد جلدى ثوبُها ورِداها يعيبون لونى بالسواد جهالة ولولا سوادُ الليل ما طلع الفجرُ ولما أوقدوا نار المنايا بأطرافِ المثقَّفة العوالى طفاها أسودٌ من آل عبسٍ بأبيض صارمٍ حَسِنِ الثقالى أمَّا فى المرتين الأخيرتين فقد جاء ذكر السواد فى سياق الفخر الصريح: وإن عابت سوادى فهو فخرى لأنى فارسٌ من نسلِ حامِ ولى قلبٌ أشد من الرواسى وذكرى مثل عُرفِ المسكِ نامِ ما عاب الزمان علىَّ لونى ولا حطَّ السوادُ رَفيعَ قدرى سَمَوْتُ إلى العلا وعََلَوْتُ حتى رأيتُ النجم تحتى وهو يجرى وقوما آخرين سعوا وعادوا حيارى ما رأوا أثرا لأثرى وليس غريبا أن ينتهى الأمر بعنترة فى إطار محاولته التسامى على عقدة نقصه المتمثلة فى سواد لونه إلى الفخر بهذا السواد بعد أن صار شاعرا كبيرا من أصحاب المعلقات وفارسا أكبر، حيث يرى إدلر أن الشعور بالنقص هو السبب الرئيسى فى إحراز التقدم فى أحوال البشر، وأن الحضارة البشرية كلها قد بنيت على الشعور بالنقص، فحتى التقدم العلمى ما هو إلا نتيجة لسعى البشر الدائم لتحسين أحوالهم عن طريق معرفة المزيد عن الكون المحيط بهم وتطوير قدراتهم على التعامل معه.