كان برما قد عاد لتوّه من المصيف وقد كلّل السَّمار وجهه بزيادة، سألته عن السر فقال: حاولت أن آخذ «تان» ويبدو أننى قد أفرطت، وأنت تعرف جيدا أن «التان» لو زاد عن حده بيقلب عم عبده. سألته عن موقفه من تصرفات المجلس العسكرى فقال: فاكر أيام كنا نتحدث عن الخروج الآمن؟ الوضع الآن كارف على آمن بلا خروج حيث يزرع المجلس العسكرى فى كل حائط من جدران الدولة مسمار جحا الذى يمكّنه من إطلالة مستمرة بالقانون «أمى جت عندكم؟ لأ.. طيب قولوا لها إنى سألت عليها.. وانتوا طابخين إيه النهارده؟»، لكن العسكر لا يلعب بمفرده، ومن يقولون إنه انقلاب عسكرى كانوا يدعمون هذا الانقلاب طول الوقت. قلت له: مش فاهم، فقال: قانون انتخابات البرلمان كان واضحا منذ البداية أنه يحتوى على ثغرة يمكن أن تهدم البرلمان رأسًا على عقب بقرار محكمة فى ثانية وهناك مئات الخبراء قالوا هذا الكلام، إذا كانت الثغرة موجودة نتيجة جهل واضع القانون ومن ارتضاه فهذه فضيحة تاريخية، وإذا كانت موجودة نتيجة ذكاء واضع القانون وطمع من ارتضى العمل به فهذه هى الصفقات التى نتحدث عنها دائما والتى غالبا ما يكسبها المجلس العسكرى. تنهّد برما ثم قال: قرار حل البرلمان لم يصدر منذ أسابيع لكنه صدر فى اللحظة التى ارتضيت فيها خوض الانتخابات بهذا القانون. سألته عن تقييد صلاحيات رئيس الجمهورية، فقال: تقييد سلطات رئيس الجمهورية هو اغتصاب شيك للمنصب، لكن لولا أن المرشح الأقرب للفوز (مرسى) هو ابن سياسة التكويش التى رأينا تجسيدا لها فى أكثر من موضع ما كنا سمعنا عن الإعلان، المشكلة أن هذا الإعلان المقيّد تبدو مقاومته على الحُرُكْرُك وغير فعالة لأن الإخوان بثوا كثيرا من الذعر بالتكويش للدرجة التى جعلت البعض يفرحون بالإعلان المكمِّل ويعتبرونه نجدة لهم. قلت له: أنت تمنح المجلس العسكرى مبررات لما فعله.. هل هذا صحيح؟ فقال: لأ طبعا.. أخطاء الإخوان لا تبرر ديكتاتورية العسكر لكنها تفسر جزءا منها. قلت له: طب والحل؟ فقال: الحل بسيط، هذا برلمان «مايتبكيش عليه» والكلام عن كونه إرادة شعبية كلام شكله حلو لكنك أنت أصلا لم تحترم الإرادة الشعبية عندما قبلت بقانون انتخابات معيوب وأنت تعرف أنه معيوب، والحقيقة نحن نريد برلمانا جديدا يشبه المرحلة التى على وشك أن تبدأ على نظافة، أما عن الصلاحيات فالدكتور مرسى ما زال فى يده صلاحيات كثيرة تجعله يكسب رضا الشعب كله للدرجة التى سيسأل عندها الشعب بعد أن يبلّ مرسى ريقه بعودة الأمن والهدوء الوطنى «همّا العسكر موجودين فى الصورة ليه؟»، وقسم اليمين موضوع روتينى وشكلى واحنا مسامحين الدكتور مرسى لو قسم اليمين ولو فى غرفة الساونا المهم أن يبدأ تجربته، المشكلة أنه غير واضح الآن ما يدور فى ذهن مرسى والعسكر، فليبدأ مرسى المباراة وستفرض الشرعية نفسها بالوقت، لكن وقوفنا عند هذه النقطة يجعلنا نناضل فى الهواء، ده حتى معارضة مرسى ملتبسة حتى هذه اللحظة ولا تعرف أين تصبّ الفائدة منها، المعارضة ابتدت تلم أصلا، وتزيدنا إرباكًا لكن ما إن يتحرك ويأخذ قرارات سيتضح من يعارض مرسى خدمةً للعسكر أو للفلول ومن يعارضه خدمةً للوطن، سيتضح من يقف إلى جوار مرسى لأنه منافق ومن يقف إلى جواره لأن ده الصح، بخلاف أن الخلط بين مرسى والثورة سينتهى وهذا هو أهم ما فى الموضوع، فلا مرسى مرشح الثورة ولا الثورة انتهت بقدوم مرسى لكرسى الرئاسة، والخلط بينهما سيجعل مرسى بمرور الوقت صاحب «أول ضربة ثورية». سألته: هل تثق أن العسكر سيختفون من المشهد السياسى بالفعل؟ فقال: أنا شخصيا أحلم باليوم الذى يعود فيه الجيش إلى طبيعته عندما كان شريكا فى الوطن يشبه الشقيق الأكبر الذى ترتاح لوجوده ولكنك لا تشعر به، قبل الثورة كانت كل علاقتنا بالجيش فى حدود السيارات اللادا أو ال128 التى يقودها مجند غلبان بينما الضابط يجلس فى الكرسى الخلفى يتصبب عرقا، أيام كنا لا نرى ضباط الجيش إلا وهم يعبرون الشارع فى صمت وكل واحد يحمل حقيبة جلد سوداء، حذاؤه يلمع وأناقته من النوع الميرى الذى لا تشعر معه بأى استعراض أو استفزاز، أيام عربيات الدفع الرباعى الصينى التى يفخر تجار السيارات بأنها تقفيل المصانع الحربية، أيام البحث عن قريب ضابط فى الجيش للحصول على خصم فى إحدى قاعات دار الحرب الإلكترونية أو الدفاع الجوى، ضباط الجيش كانوا بيننا فى الحياة اليومية مصدر فخر إن كانوا أقارب، ومصدر طمأنينة إن كنت تعرف أحدهم ولك ابن هيتحدف فى وحدة عسكرية فى السلوم لتأدية الخدمة، كنا ننظر إليهم باحترام مع بعض الشفقة الناتجة عن كونهم يا عينى مش ضباط شرطة يعنى مش هيقدر يمسك واحد مضايقه يلطّش له فى الشارع أو حتى مش هيعرف يجيب لك بسهولة رخصة اتسحبت منك فى لجنة، نعرف جيدا أنهم على قد حالهم ماديًّا لكنهم غير فاسدين، نراهم دائما موضع تقدير خاص لكن دون الحاجة إلى ممارسات تقينا شرهم، لأننا لم نختبر أذاهم أصلا، ضباط الجيش كانوا ونسًا غير مرئى فى حياتنا اليومية ونادرا ما كانت تظهر سيرتهم فى ثرثرتنا.. يا راجل ده مافيش مسلسل درامى ولا فيلم اجتماعى فى التلاتين سنة اللى فاتوا كان بطلها بالصدفة شخصية ضابط جيش. قلت له: صح يا برما.. بس احنا فرحنا بيهم يوم ما نزلوا فى الثورة وشِِلناهم فوق أكتافنا وادينالهم بإرادتنا المساحة دى، فقال: ما أنا باقول لك «التان» لو زاد عن حده بيقلب عم عبده.