كنا نصطحب صديقنا الأمريكى من أصل سورى والذى أقبل إلى مصر لكى يتعلم العربية الفصحى فى نزهة نيلية تمناها كثيرا,كعادته بدا النيل هادئا لا يعبأ بما حوله فى طريقنا إلى النيل مررنا بخيمة الثورة السورية حيث شاهدنا معرضا لصور الفظائع التى يرتكبها نظام مجرم فى حق شعبنا فى سوريا وهناك مال علىَّ صديقى ليهمس فى أذنى ( أهو لو جه سيادة الفريق هنبقى زيهم كده....إحنا اللى هنصعب عليهم!!) ابتسمت ابتسامة مريرة و لم أعقب انطلقنا إلى نيلنا,و بدأنا نزهتنا ،غريب هو أمر ذلك النهر,فبرغم كونه الشاهد الأعظم على كل ما عاشه هذا البلد من أحداث عظام إلا أن له هدوءاغريبا مشعَّا لا يضاهيه سوى عمق هيبته فى أحيان كثيرة يهيأ إلىَّ أن النيل هو خزانة أسرار كبيرة لها وجه مائى تحوى فى داخلها كل ما لم تحكيه كتب التاريخ وجاءت لحظة غريبة التفاتة عادية إلى اليمين, منحتنى مشهدا واضحا على بعد متوسط من كوبرى قصر النيل,الغريب أننى بدوت كمن يراه للمرة الأولى و أنا من اجتازه مرات و مرات وكفيلم سينمائى قصير تتابعت صور الثامن و العشرين من يناير أمام عيناى سيارات الأمن المركزى,سواد لون قواته,الغاز الكثيف,مدافع المياه,شاب إخوانى تقطر المياه من جلباب أبيض كان آخر ما ارتداه فى حياته وخلدت الفوتوغرافيا صورته طالبا الرحمة من قلوب لا تعرفها بمصلين وجدوا أنفسهم أمام الموت فأرادوا أن يواجهوه فى معية الله مصلون كان بعضهم مسيحيا لا يعرف متى يركع المسلمون فى صلاتهم ولا متى يسجدون إلا أن لحظة فريدة فى عمر الوطن قد صهرته فى كيان واحد مع أنبل إخوة حنانيك يا الله!!!! فقط لا تخبر من رحلوا فى هذا اليوم نتيجة أول إنتخابات..أوصلونا هم إليها بدمائهم هكذا أحسست فى اليوم التالى لظهور نتيجة الإنتخابات ولا أعتقد أن ردود أفعال الكثيرين ممن كانوا فى معسكر الثورة قد اختلفت كثيرا فهذه صديقة تحدثنى فى انهيار تام ووسط بكاء مرير بكلام غير مترابط من نوعية(أنا مش هسيب بلدى) (إزاى ده حصل) ( أنا مش عاوزة أسافر و أسيب بلدى) و صديق آخر يخبرنى عن صدمة والدته التى جلست تنتحب فى ألم قائلا (أمى مزعلتش كده على جدى –الله يرحمه-) وإذا كنت قد شرفتنى بقراءة مقالى السابق (أنت الرئيس) فلابد أنك مندهشمن رد فعلى لأننى كنت أقلل من قيمة الرئيس القادم من حيث الفعل,ولازلت عند قناعتى بل ازددت إيمانا بها,ولكن رد الفعل هذا كان فيما أعتقد إشفاقا من رمزية النتائج أكثر من أثرها الواقعى ,فقد أشفقت من أن تكتب ثورة هى فى نظرى من أعظم ثورات التاريخ فى كتبه على أنها إنتفاضة خلعت حاكما و أبقت نظامه أو حركة إحتجاجية منظمة رتبها تيار معارض لكى يستولى على الحكم ,ورد فعلى فى النهاية دليل على أنه لا أحد أكبر من الحياة بكل انفعالاتها التلقائية و إلا فلماذا يحزن الناس من الموت و هم عالمون أن الجميع ملاقيه؟؟ ولكن هناك فرق كبير بين الانحناء والانكسار,بين المقاتل الذى يسقط و الذى ينسحب,بين الشمس التى تحجبها غيمة عابرة وتلك التى تغرب هناك فرق بين المعركة والحرب إذا كنت تعتبر أن وصول رئيس مجهول الصلاحيات إلى موقع الرئاسة هو نهاية الثورة فأنت لا تدرك الفارق بين كل ما سبق,إذا لم تكن مؤمنا بأن الأمل و المثابرة وطول النفس هم أسلحتنا فأنا أشكر لك انحيازك للثورة لكننى فعلا لا أستطيع الاعتماد عليك فى حمايتها و مواصلة طريقها ذلك أن هذه الثورة بدأت من داخلنا قبل أن تبدأ فى شوارعنا,و انتصرت فى داخلنا قبل أن تنتصر فى مياديننا,ولن تنهزم فى واقعنا قبل أن تنهزم فى داخلنا. الثورة هى أنا و أنت حين نقرر أن نتغير,هى صرخة كل مظلوم يأبى أن يئن فى صمت,هى الغضب الذى يعطينا القدرة على مواجهة أقسى العتاة و أكثر الطغاة بطشا. الثورة هى حلم و فكرة و إيمان وأبدا لم يكن فى استطاعة رئيس أو ملك أو إمبراطور أن يكبل الأحلام أو يقتل الأفكار أو يقضى على الإيمان لو أن الأمر بهوية الرئيس يا صديقى لما انهار نظام مبارك فى ثمانية عشر يوما تحت أقدام الغضب و الحلم وهو الذى امتلك الجيش و الشرطة والقضاء والرئاسة والشرعية الزائفة هناك أشياء تفوق منصب الرئيس الذى لا أملّ من وصفه بمجهول الصلاحيات فى الأهمية,أولها و أهمها الدستور الذى سيرسم شكل الدولة و يحدد صلاحيات الرئيس و يوضح العلاقة بين السلطات و نظام الحكم. لكننا دائما نهوى المعارك الجانبية التى تزيدنا فشلا واستقطابا, ونترك دائما الأهم من أجل المهم لا نستمع أبدا إلى نصيحة ليو تولستوى فى ساعاته الأخيرة حين انتفض جالسا فجأة على طرف فراشه ليقول لكل من حوله (أريد فقط أن أنبهكم إلى أنه يوجد فى العالم خلائق كثيرة غير ليو تولستوى.....إنكم لا تنظرون إلا إلى ليو) أرجوكم...انظروا أبعد من ليو!!!