ماذا تفعل لو كنت مكانى وأنت تسير فى الشارع وجدت من تفتح لك ذراعيها وتأخذك بالأحضان وقبل أن تستيقظ من الحضن الأول تجد حسناء أخرى تمنحك الثانى وأنت فى حالة الذهول والدهولة تفاجأ بحضن ثالث وإذا لم تسرع بالاحتماء بالرصيف ربما يصل الأمر إلى عشرة أحضان وأنت وحظك، حيث إنك لن تضمن فى هذه الحالة أن كل الأحضان من نساء جميلات، حيث إنه فى الزحام لا مجال للانتقاء. هذا هو ما حدث لى بالضبط وأنا أسير أمام قصر الباليه فى «كان» قبل ساعات قليلة من نهاية المهرجان واكتشفت أن الأحضان تُمنح لكل عابر أمام القصر، وأن هذه هى المرة الثانية التى يتم فيها ذلك، أى أنه حدث فى العام الماضى أيضًا، ولكنى لسبب أو لآخر لم ألحظ ذلك.
عدت مباشرة إلى «النت» لأكتشف الحكاية ووجدت أن هناك منظمة عالمية تحمل اسم «أحضان مجانية» بدأت نشاطها قبل خمس سنوات واختارت موعدًا ثابتًا لها وهو «السبت» الأول من يوليو فى كل عام، وحيث إننا لم نكن فى الأول من يوليو ولكنه «سبت»، ولأن هناك حدث عالمى تعيشه مدينة «كان»، فإن أعضاء هذه المنظمة قرروا أن يحطموا القاعدة ويمنحوا الأحضان المجانية يومًا إضافيًّا مجانيًّا!!
إنها أحضان بريئة فى كل الأحوال، والحكاية بدأت من مدينة سيدنى بأستراليا عندما عاد رجل من الغربة إلى بلدة وكان محبطًا فوجد من أحس به فى الشارع، فمنحه حضنًا، ومنذ ذلك الزمن وهو يبحث عن كيفية العمل على اتساع دائرة الأحضان لمن هم مثله يعيشون مشكلات ولا يجدون من يتعاطف معهم، وهى بالتأكيد ظاهرة عالمية، ولكن ما حدث هو أن السلطات الأسترالية اعتبرت أن هذه الأحضان بها اعتداء على الخصوصية فحرّمتها، وبعد ذلك استضافته المذيعة الشهيرة أوبرا وينفرى، وانضم إليه الآلاف، تضامنوا معه، فلم يعد هناك ما يستحق التحريم، حيث إن الأمر فى كل الأحوال لا يتم عنوة لأن من حقك لو أردت أن تمنع هذه الأحضان.
عدت إلى مصر بعد نحو أسبوعين قضيتهما فى «كان» وأنا ألهث من فيلم إلى آخر، وبالتأكيد كنت أتابع الحالة السياسية وما يجرى فيها وما أسفرت عنه الانتخابات، ووجدنا أنفسنا نضرب فى الحائط ما بين المُر والأمَرّ منه، مرسى أم شفيق كلاهما مُر، ولكن مَن الأمَرّ؟ تلك هى المشكلة التى تعددت فيها الآراء!
التيار الدينى الذى جربناه خلال أشهر قليلة تحت قبة البرلمان واكتشفنا كم هم مخادعون، هم المُرّ أم هم الأَمَرّ منه؟ هل استبدال مبارك آخر فى السلطة بالفريق شفيق الذى لم يعترف بالثورة وبمجرد تعيينه رئيسًا لوزراء مصر كان الهدف الاستراتيجى له هو إجهاض الثورة؟
أسقط الثوار شفيق من مقعد رئيس الوزراء بعد نحو شهر من خلع مبارك، فهو أول رئيس وزراء يستطيع الشعب خلعه بعد ثورة 52. بين شفيق والثورة والثوار ثأر، فكيف نستأمنه على مصير مصر حتى لو قال إنها مدة واحدة لن تتجاوز 4 سنوات، حتى لو وقّع على وثيقة بأنه لن يتدخل فى أحكام القضاء ولن يعفو عن مبارك؟ فمن الذى يضمن كل ذلك؟ وهل شفيق الذى شاهد رئيسه داخل القفص سوف يسمح بأى مظاهرات؟ الدماء ستصبح هى وسيلته للبقاء على الكرسى بحماية من المجلس العسكرى، فهو حريص على أن لا تطولهم أى سلطة رقابية.
شفيق هو صوت الفلول الذين لا يمكن الاستهانة بهم، كما أنه يحظى بتعضيد من يرون فى حكم العسكر طريق الأمان لمصر.
العديد من القوى التى تورّطت فى صفقات مع فساد عصر مبارك والتى لم يطلها القانون، لديهم المليارات ويدعمونه، ومن داخل السجن يستطيعون بأموالهم دعمه.. دولة الطاغية الفاسد لم تمت، لا تزال تتنفس تحت الرماد بعد أن عثروا على رجلهم.
إنها الديمقراطية، ولكننا نملك فى أيدينا قوة الامتناع وإبطال الصوت، والرئيس الذى يأتى بعدد محدود من الأصوات سيظل دائمًا رئيسًا مطعونًا فى شرعيته.
الامتناع عن التصويت طبقًا لقراءة الحالة فى مصر سيصب فى صالح شفيق. بديهى أن قطاعًا وافرًا من الأقباط سوف تذهب أصواته إليه.. كما أن جزءًا لا يستهان به من الأصوات التى مُنحت لحمدين سوف تتوجه إلى شفيق، خوفا من شبح الدولة الدينية.. إنها مأساة لا تصلح معها عشرات من تلك الأحضان المجانية التى انهالت علىّ فى «كان»!