قال تعالي: (وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون) صدق الله العظيم. في هذه الآية الكريمة يوجه القرآن الأمر إلي الرسول - صلي الله عليه وسلم -: قل يا محمد لكل من أرسِلت إليه، أي للعالمين؛ اعملوا، فعملكم سيراه الله عز وجل، وسيراه رسوله - صلي الله عليه وسلم -، وسيراه المؤمنون، كل ذلك يوم القيامة، وهذا إنذار رهيب لكل بني الإنسان أن كل ما يقوله ابن آدم أو يفعله أو حتي يفكر فيه سيجده أمامه يوم القيامة منشورا، قال تعالي: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفي بنفسك اليوم عليك حسيبا) «الإسراء 13 و14»، إذن.. فالعمل المقصود في هذه الآية الكريمة، هو كل ما يأتي به الإنسان من أعمال أو أقوال أو حتي أفكار، ولأن الموعد الله، ولأن الله والرسول والمؤمنين سيرون يوم القيامة ما عملنا؛ فنحن مطالبون بأن نتقن أعمالنا ونصدق في أقوالنا، ونتوخي الحذر كل الحذر في أفكارنا وكل ما يجول في خواطرنا. فالعامل في مصنعه، والفلاح في مزرعته، والطبيب مع مرضاه، والمهندس والكاتب والقارئ، والقاعد والواقف، والمسافر والمهاجر والأب والأم والأبناء والبنات، والبائع والمشتري والدائن والمدين والمعطي والآخذ، كل بني الإنسان ذكرانا وإناثا مطالبون بإتقان العمل والصدق في القول، لأن أعمالهم؛ بمنطق الآية الكريمة سيراها الله ورسوله والمؤمنون، وليس أصعب علي الإنسان من أن يُري عمله غير متقن. ومما لا شك فيه أن موقف المؤمنين يوم القيامة مع رسولهم - صلي الله عليه وسلم -، والكل مع الخالق تبارك وتعالي يرون ما عمل الآخرون؛ هو تكريم للمؤمنين ما بعده تكريم، فالمؤمنون قبل هذا الموقف التكريمي الرائع قد تلقي كل منهم كتابه بيمينه، وحوسب حسابا يسيرا، وانقلب إلي أهله فرحا سعيدا، فقد كتبت له الجنة، قال تعالي: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلي أهله مسرورا) -الانشقاق. أما الآخرون ممن سيُأتون كتبهم وراء ظهورهم، فهم من لم يعملوا حسابا في دنياهم لآخرتهم، ولم يستجيبوا لأمر الله والرسول بالعمل، قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم-: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا)، هذا الأمر النبوي الرائع للمؤمنين بالعمل هو تلخيص لكل ما يمكن أن يعمله الإنسان في حياته أو يتفوه به أو حتي يفكر فيه. وبما أن الأمر الإلهي بالعمل هو أمر شامل جامع لكل عمل الإنسان وقوله وفكره؛ فهو بالطبع يشمل عمل الإنسان من أجل كسب الرزق، وكل إنسان يقوم بعمل يجب عليه أن يدرك هذه الحقيقة؛ أن هناك من يراقب عمله، عينٌ لا تنام، تري كل صغيرة وكبيرة، ولو أن كل إنسان استوعب هذه الحقيقة قبل الشروع في أي عمل مهما كانت طبيعته؛ لاختلف الكثير من نتائج هذه الأعمال، فمثلا.. لو أن الطبيب شعر أن هناك من يراقبه أثناء تعامله مع مرضاه؛ لانكب علي عمله يتقنه، ولا صدرت منه إساءة لمريضه الذي لجأ إليه في أحلك لحظات عمره، ولا استغل احتياج مريضه له ليحصل منه علي ما ليس من حقه ولقام بواجبه نحوه بكل تفانٍ وإخلاص، رغبة منه في نيل رضا الله تبارك وتعالي ورضا رسوله - صلي الله عليه وسلم - ورضا المؤمنين، حين يرون عمله يوم القيامة. والناظر إلي مجتمعاتنا يري أمثلة كثيرة علي عدم إتقان العمل، وهي إن دلت علي شيء فهي تدل علي ضعف في الإيمان وعدم فهم للآية الكريمة، إن كل عمل يقوم به الإنسان مراقب، وسيجده يوم القيامة منشورا أمامه، ليراه الله ورسوله والمؤمنون، المهندس والمقاول اللذان يعهد إليهما بالبناء؛ إن لم يتقنا عملهما؛ سقط المبني علي رءوس سكانه، والموظف الذي يرتشي، والمدرس الذي لا يخلص مع تلاميذه، والعامل الذي لا يراعي الدقة في عمله، والأم التي تهمل في تربية أبنائها والأب الذي لا يقوم بواجباته نحو بيته وزوجته وأبنائه، وغير هؤلاء كثير، يؤدي إهمالهم إلي كوارث شتي، وعواقب وخيمة في الدنيا، ولهم الفضيحة والعار والنار بكتبهم المنشورة يوم القيامة. إن إيمان الإنسان مرهون بالخوف من عقاب الله وناره، وبالطمع في رضوانه وجنته، فينبغي ألا يقوم بعمل من شأنه أن يؤدي إلي إيذاء أحد، والإنسان المؤمن يري الله في كل عمل يعمله فلا يقوم بعمله إلا علي الوجه الأكمل والأمثل وهو ما حضنا عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم بقوله: (إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه)، وإتقان العمل يعني التفاني والإخلاص فيه، فحين يؤدي الإنسان عمله بحب ممزوج بالإتقان، وبإخلاص يحدوه التفاني، وبرغبة في رضوان الله، ورجاء منه أن يبعده عن عذابه، حينها سيتفوق كل في نطاق عمله، ويتبدل الحال غير الحال، والله من وراء القصد.