د. حسين عبد البصير يكتب: وادعا بابا مصر والعرب د. حسين عبد البصير رحل البابا شنودة الثالث بابا مصر والعرب تاركا مصر والمصريين فى لحظة تاريخية تحتاجه بشدة. وفى مشهد مهيب لا يتكرر كثيرا فى تاريخ الأمة المصرية، ودعت مصر والمصريون أجمعين مسلمين ومسيحيين واحدا من أعظم وأوفى وأبر وأحب أهل مصر الطيبين: هو البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك القرازة المرقسية. وما حدث من حزن عميق وإحساس لا يقاوم بجلل الحدث وعظم الفقد يؤكد على المكانة المتميزة التى احتلها ذلك البابا الناسك الزاهد فى قلوب ونفوس المصريين أجمعين. ولم يفعل المصريون هذا مع كثير من المصريين الراحلين؛ إذ تعد لحظات الحزن الجمعى على الشخصيات المؤثرة فى تاريخ الوطن معدودة وقليلة للغاية، ولم يحزنوا بصدق مثلما حزنوا على رحيل ذلك البابا الحكيم. تولى البابا شنودة الثالث رئاسة الكنيسة القبطية المصرية العريقة فى ظرف تاريخى عصيب بعد رحيل البابا كيرلس السادس الذى كان رمزا روحيا للمصريين أجمعين، وليس للأخوة المسيحيين فحسب، وبعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر وتولى الرئيس أنور السادات سدة الحكم فى مصر بفترة وجيزة، وفى فترة كانت متقلبة تموج بأمواج وأحداث سياسية عدة على الصعيدين الدولى والمحلى، وصمد أمام ديكتاتورية أنور السادات وحسنى مبارك. ورحل عنا أيضا فى ظل تحول سياسى كبير فى مصر نحلم جميعا بأن يقود مصر لبر الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية والتسامح والتكافل وكل ما هو حق وخير وجمال. وكم كنا نتمنى أن يكون معنا فى تلك اللحظة الفارقة من تاريخ الوطن كى يرشد الأمة بحكمته الصائبة ويهديها بثاقب رؤيته ويدخل الإخوة المسيحيين فى منظومة العمل السياسى العام بعد أن تم إقصاؤهم عنوة عن المشاركة فى كتابة وصياغة تاريخ الوطن، مصر الأم، منذ فجر 23 يوليو 1952. لقد ازدانت الكنيسة القبطية المصرية العريقة بوجود البابا شنودة الثالث على رأسها ونجح باقتدار فى قيادة دفتها فى بحر هائج الأمواج وكثير الأعاصير والتقلبات، وجنب الأمة بحكمته الفائقة مصائد ما يسمى خطأ ب"الفتنة الطائفية" وأعاد للوطن وحدته وسكينته وهدوئه عبر السلام والمحبة والتسامح والحكمة. وقد كان أيضا قيادة روحية ملهمة ومعلمة للمصريين والعرب أجمعين، فتعلم منه المصريون والعرب حب الأرض والصبر والصمود والحكمة فى مواجهة الشدائد التى واجهت سفينة الوطن العربى من قبل حكامه الديكتاتوريين مرارا وتكرارا. وارتفعت قامته كزعيم روحى بين زعامات العالم الروحية المشهود لها بالحب والاحترام والتقدير والتأثير. وامتد تأثيره من مصر إلى خارجها ناقلا دور ورؤية ورسالة مصر الحضارية العريقة إلى العالم كله من خلال المحبة والسلام والحكمة والتسامح والإبداع والتواصل والتطور. لقد أحب البابا شنودة الثالث بصدق مصر والمصريين من كل قلبه وبذل قصار جهده كى يعيش كل المصريين فى سلام ومحبة وإخوة وتسامح ووئام، وبادله المصريون المسلمون قبل المسيحيين حبا بحب واحتراما وتقديرا باحترام وتقدير مماثلين. وكان البابا شنودة الثالث دارسا للتاريخ وللآثار القديمة وكان محبا للحكمة والفلسفة ونظم الشعر وعشق الأدب والحس الفكاهى. ولقد عاش البابا شنودة الثالث فى مصر وعاشت مصر فيه. ولا يمكن نسيان مقولته التاريخية الخالدة عن مصر الوطن العظيم الذى يجمع ولا يفرق والذى يوحد ولا يقسم :" إن مصر ليست وطنا نعيش فيه بل وطن يعيش فينا". وقد أوجز وأعجز بهذه المقولة المعبرة عن عظم الشخصية المصرية المحبة لمصر وأرضها العظيمة. ومما لا شك فيه أن التاريخ العريق الذى كان يمثله ويحمله على ظهره البابا شنودة الثالث إنما هو تاريخ كل المصريين العظام أصحاب الحضارات العديدة التى نشأت على أرض مصر منذ عصور ما قبل التاريخ السحيقة فى القدم إلى زمننا الحالى، وأعنى طبقات حضارية متعددة تكشف عن معدن وأصل وعظمة وعراقة وطيبة المصريين الذين لا يضاهيهم فى ذلك شعب من الشعوب أو أمة من الأمم. ويعبر موقف البابا شنودة الثالث الثابت من القضية الفلسطينية وعدم زيارة أهل مصر من الإخوة المسيحيين القدس إلا مع إخوانهم المسلمين عن عظمة الحس السياسى والبعد الوطنى الصادق والغيور والمدافع عن قضايا أمتنا العربية الكثيرة. لقد جاء البابا شنودة الثالث من الأرض المصرية الطيبة ورحل عنا إلى دار الحق، لكن يبقى ما قدمه لمصر والمصريين حيا فى ذاكرة المصريين أبد الدهر. ولا ينسى المصريون الطيبين من أهلها العظام. ألهم الله الأمة الصبر والسلوان على فراق البابا شنودة الثالث وعوضها عن فقده بقيادة روحية جديدة ذات قيمة وقامة مماثلة له تواصل رسالته الخالدة من خلال المحبة والسلام والحكمة، وتحقق للكنيسة المصرية العريقة ما تحلم بتحقيقه عبر المشاركة فى صياغة وإنتاج تاريخ مصر بقوة وفاعلية فى مرحلتها الحالية ومن خلال نسيجنا الوطنى الواحد القادر على توحيد الصف ورأب الصدع فى مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية. وداعا بابا مصر والعرب.