سيد حسين لا أحب الرغىّ فى المرغىّ.. والسبب الرئيسى إننى أكتب أحياناً مقال واحد كل أسبوعين، وأحياناً أخرى مقالين فى اليوم الواحد، هو إننى لا أكتب إلا لو أنفعلت بموضوع أرى فيه وجهة نظر مختلفة عما يراه غيرى ممن أقرأ لهم (وهم كُثر)، ولكنى لا أرى أى داعى إطلاقاً للكتابة فى موضوع (ذقن الشرطة أو أنف البلكيمى أو حمار زياد العليمى مثلاً) وقد قتله أخرون من الكتاب المحترمين بحثاً وتمحيصاً وتريقة وتنبيطاً أمثال جمال فهمى، أسامة غريب، عمر طاهر، نوارة نجم، وائل قنديل، والإبراهيمين عيسى ومنصور وغيرهم.. خاصة مع تطابق قناعاتى وأرائى مع كل من سبق ذكرهم بنسبة مائة فى المائة تقريباً، ولذلك إسمحوا لى أن ألتزم بعهدى مع نفسى بألا أعيد وأزيد في ما قاله غيرى، وأن أقدم تجربة إنسانية خالصة متفردة تعود لى وحدى، وإن كانت بعض أحداثها تتكرر مع ملايين غيرى، ممن أوقعهم حظهم السئ فى نفس النطاق الجغرافى المنكوب بالطغاة الأغبياء. صباحاً: (الزمّار) - ورقك ناقص حضرتك - ناقص إيه تانى؟ (أو عاشر)! - ناقص «ورقة إثبات بيانات» - يعنى إيه إثبات بيانات؟ - يعنى ورقة زى دى من السجل المدنى (مناولًا إياى ورقة فى حجم تذكرة السينما) تقوللنا إن بياناتك دى صحيحة.. أخذت من الكائن الفضائى المنتدب للعمل بالجهة السيادية الورقة التى تشبه فى خامتها ورقة الكراسة، ولا يوجد بها إلا ثلاثة أسطر فقط (الإسم - العنوان - رقم البطاقة)! فسألته بإستغراب من تفاهة الورقة: - لازمتها إيه الورقة دى؟ - إنها تقول أن الورق بتاعك مظبوط - أنهى ورق؟ - اللى أنت مقدمة! - يعنى الورقة الحقيرة دى هى اللى هاتثبت إن: «بطاقة الرقم القومى» و«قسيمة الجواز» و«شهادة الميلاد الأصلية» والتانية اللى بالكومبيوتر و«شهادة التخرج» و«الفيش الجنائى» بياناتهم صح؟؟؟ - بالظبط كده.. - وهو أنا لو مزوّر كل الأوراق دى. هايكون صعب عليا إنى أزوّر الورقة التافهة دى! - زوّرها وهاتها .. أنا يهمنى الورق يكون كامل.. - طب ماتملاها من البطاقة .. ماهى نفس البيانات! - لازم تتملى من كومبيوتر السجل، وتتختم من هناك كإثبات على إن ورقك صحيح.. - إذا كانت البطاقة نفسها إسمها فى الأوراق الرسمية «إثبات شخصية» إزاى عايز تثبت ماهو مثبت بالفعل؟! - ماتضيعش وقتى أرجوك، وروح هات الورقة من السجل، لأن من غيرها الورق مش هايمشى. مشوار إبن جزمة أخر مالوش أى تلاتة لازمة. لماذا أثبت ماهو مثبت؟ أى عقلية متخلفة مريضة تلك التى وضعت تلك القواعد؟ بعد ساعة من القيادة فى شارع المأسوف على حضارته «الهرم» وصلت السجل. - حضرتك رايح فين؟ - عايز «شهادة إثبات بيانات» - الدور التالت عند مدام «صفية» إلى الدور الثالث إذن.. - مدام «صفية». عايز «شهادة إثبات بيانات» - جنيه ونص وماعييش فكة.. - أدى خمسة جنيه .. ومش عايز الفكة، إدينى الشهادة - الورقة أهى. إملاها على جنب هناك (مشيرة إلى مكتب فارغ) وإختمها من المقدم «وليد» فى الدور التانى.. - أملاها أنا؟ مش المفروض من الكومبيوتر؟ نظرت لى السيدة بإستغراب وكأنى كائن خرافى، وتبعت نظرتها بعبارة هادئة وهى تشير بالقلم إلى مكتب خالى: - إملاها من البطاقة سيادتك، ماهى نفس البيانات! إنت غاوى عطلة؟ - غاوى عطلة؟؟؟ أنا قلت الكلام ده «للبأف» اللى هناك سيادتك، وأصر إنى أملاها من هنا! - طب خلاص .. إملاها ورجعها «للبأف» اللى هناك عشان تخلص.. مليت الورقة (بنفسى) وختمتها من المقدم «وليد»، ورجعت فى الأسبوع التالى يوم أجازتى لأنهى أوراقى.. - «إثبات البيانات» سيادتك.. - كويس، سيبها وتعالى كمان يومين عشان «الصول» اللى بيرفع الملفات غايب - الله يلعنكوا أنتوا الإتنين! - بتقول حاجة حضرتك؟ - لا أبداً.. فى الأسبوع التالى ذهبت لإستلام الأوراق.. وبعد ساعة إنتظار: - إتفضل حضرتك الملف أهه، روح سلمه فى التحقيقات تانى باب يمين.. - تانى باب يمين؟؟؟ طب كنت مستنينى لما أجى ليه؟ ليه ماسلمتوش أنت؟ - مالناش دعوة .. إحنا بنخلص الورق وسيادتك تسلمه بنفسك - ........! ذهبت للتحقيقات فوجدت طابور وكأنه «يوم الحساب» أو مخزن «أنابيب بوتاجاز» فأنصرفت حتى لا أرفد من عملى، وعدت فى الأسبوع التالى.. وبعد ساعتين إنتظار سلمت الملف فطلب منى الموظف العودة فى اليوم التالى لإنهائه .. فعدت يوم أجازتى فى الاسبوع التالى.. - الملف خلص لو سمحت؟ - لأ طبعاً.. - لأ ليه؟ وليه طبعاً .. إنت قلتلى تعال بكرة من أسبوع - الفيش اللى فى الملف إنتهى سيادتك - يعنى إيه؟ - يعنى مدته (التلت شهور) إنتهت، ولازم تعمل واحد جديد - الفيش ده عندكم من أول يوم طلعته فيه! - وانتهى.. - وأنا مالى، ماهو أنا قدمته خلاص! - وانتهى، يبأه لازم تجيب غيره.. - الكلام ده مش مظبوط. لأن الورق كان عندكم، هو أنا فى الشغل بقدم «فيش» كل تلت شهور؟؟؟ هى مرّة واحدة من عشر سنين وخلاص! - عندنا لازم تجدده.. - ليه؟ - مش يمكن عملت سابقة فى التلت شهور دول؟ - يعنى أنا هقعد 35 سنه نضيف! واتحول للإجرام فى الكام يوم اللى بخلص فيهم الورق؟! - مالناش فى الكلام ده، هات فيش جديد.. - مش هاجيب.. - ومافيش ورق هايمشى غير بفيش جديد.. - وأنا مش عاجبنى الكلام ده؟ فين رئيسك؟ - ياسلام.. روحله فوق فى الدور التانى، إسمه «محمد بيه فلان» وهايقوللك نفس الكلام.. وطلعت ل «محمد بيه» وقاللى نفس الكلام فعلاً! وجبت «فيش» جديد (وده قصة لوحده) ورجعت بعد أسبوع.. - الفيش الجديد.. - ماكان من الأول.. - معلش. أنا غاوى عطلة .. خلصنى لو سمحت - مش بالبساطة دى.. - يعنى إيه؟ - يعنى لازم تغيرلنا البطاقة دى، عشان أنتهت من أسبوع.. قفزت من مكانى محاولاً الوصول إلى ما وراء الشباك لأمسك عنق الموظف الذى أفلت بحركة سريعة بأعجوبة، وأنقض علىّ أولاد الحلال مكبلين حركتى، حتى لا أفتك بالموظف الذى أخذ يصرخ: - سيبوه .. سيبوه يضربنى عشان يتسجن ويتربى.. - والله ماعندى مانع أخد فيك 25 سنة .. سيبونى .. سيبونى .. أخرجنى ولاد الحلال من المكان الملعون قبل أن يُقبض علىّ، ويتم محاكمتى للفتك بموظف عام أثناء تأدية وظيفتة فى «ذل» و«قهر» المواطنين، وفى الخارج جلست على الرصيف محاولاً أن أهدأ (وأنا أشعر بقلبى يكاد ينفجر من الغيظ والإنفعال) محاطاً بأولاد الحلال من حولى يهدئوننى بأى كلام.. ويكلمون بعضهم البعض وكأنى غير موجود! - مش تصلى على النبى كده؟ - الناس دى حبالهم طويله وعايزين اللى يصبر عليهم.. - يعنى إنت مش عارف شغل الحكومة؟! - شكله إبن ناس مش واخد على البهدلة.. - إستحمل يا عم، ده انا بقالى فى الليلة دى ييجى سنة! ثم نظر لى أحدهم متسائلاً باستغراب: - بس حضرتك ليه كنت مُصّر كده أنك تطبق فى زمارة رقابته؟ أجبته بهدوء وأنا أهم بالإنصراف: - كنت عايز أخدها أزمر بيها... مساءً: (فيلم السهرة) هل الإنسان مُسّير أم مخّير؟ هذه القضية ستظل محل خلاف للأبد .. وإن كان بعض علماء الإسلام قد أفتوا "بأن الإنسان مُسّير فى ولادته ووفاته فقط، أما مابين تلك وذاك فكل شئ هو مخير فيه"، وإن كان هذا فى رأيى لا يفسر على الإطلاق مدى الخيارات المتاحة لمن يولد فى «الدويقة» لأب «نشال» وأم «خدامة» (!) ومن يولد فى الزمالك لأم سيدة «روتارى» وأب عضو مجلس إدارة فى عزبة قطاع عام! (السياسة مرة أخرى _لعنة الله عليها_ حتى فى وقت الأنتخة!).. فيلم «The Adjustment Bureau» فيلم مُحّفز للتفكير. يمتحن قناعاتك بشكل رائع، ويحاول (بشكل فانتازى) أن يخبرنا إن القدر يضع لنا خطة منذ ولادتنا، وإذا حاولنا أن نحيد عنها فإنه يعيدنا للخطة الأصلية بقسوة ربما تصل لإغتيال من نحب! أو حتى ذوينا، فى سبيل أن لا يتسلم الإنسان كامل مصيره بنفسة، وإلا... فالنتيجة الحتمية _نظراً لغباء البشر ونزعتهم الأصيلة نحو التدمير_ هى فناء الأرض بمن عليها. ولذلك فهناك «الحراس». «الحراس». مرتبة أقل من الملائكة، وأعلى من البشر، وأطول عمراً بكثير. لديهم بعض القوى الخارقة، ولديهم «دليل» أو «كتاب» سُطر فيه مصير وقدر كل بنى أدم على وجه الأرض. وظيفتهم هى مراقبة الجميع، وضمان ألا يحيدوا عن المسار المرسوم لهم حتى يصل البشر لدرجة من التحضر تؤهلهم لتسلم مصيرهم وصناعة قدرهم بأيديهم. الفيلم أكثر من رائع. يستحق المشاهدة والتركيز بعيداً عن النعرات الدينية والتفسيرات الفقهية التى لا يتحملها فيلم وظيفته الأساسية أن يسليك وأن يعلمك شيئاً جديداً. المهم هو «المورال» أو الحكمة التى يخبرنا بها فى أخر جملة على لسان بطلة «ديفيد»، والتى تستحق أن تنقش على نصب تذكارى فى منتصف «ميدان التحرير» لشهدائنا الأبرار: "لا ينال الحرية إلا من قاتل من أجلها".