كنت فى مواجهة مئات الجنود بخوذاتهم ومدافعهم وعصيهم وهراواتهم وسط الدخان والماء الكبريتى فى قلب ميدان الجيزة ظهيرة 28 يناير، بعضهم يعرفنى فاحتار بين أن يمنعنى وأن يتركنى وأن يضربنى، كنت مصمما وكانوا مترددين فقلت لهم بحسم: عايز أقابل أكبر واحد فيكم. لم يفهموا بسرعة لكن ضباطا رأونى فجاؤوا متوترين ومفاجَئين، بادرتهم: عايز أكلم مدير الأمن. لمسوا الثقة فتلمسوا المشورة، كل كبير يقول للذى هو أكبر منه حتى جاءنى شرطيان على درجة أعلى من التوتر والعصبية بينما متظاهرون يتابعون فى حيرة من بعيد، أخذانى وعبرا بى أسوارا حديدية قادتنا إلى حيث ساحة فارغة مخصصة للسيارات العامة فى الأوقات الطبيعية حيث وجدت بعد عدة أمتار مجموعة من الضباط بالزى المدنى كبار فى السن والرتبة، تعرفت على كبيرهم فورا، إنه مدير الأمن اللواء أسامة المراسى، كان مشغولا بنقاشات مع مرافقيه وقد ضغط التوتر على ملامحهم لكنه ربما تشبُّثًا بأمل مرور هذا اليوم على خير (خيره طبعا). بادرنى بامتداح مقالاتى وبرامجى الدينية (لا أقدم برامج دينية ولكن تاريخية، لكن لم يكن هناك وقت للنقد التليفزيونى)، اندهشت لهذا الرجل الدمث المعجب الذى لم يتوقف رجاله عن إلقاء القنابل على المتظاهرين منذ ساعات، سألنى: إنتم عايزين إيه بالضبط؟ ضحكت وقلت: الشعب يريد إسقاط النظام، ولحد ما يسقطه أريد حماية حياة الدكتور محمد البرادعى، هو الآن فى الجامع، ولو حصل له حاجة سيادتك ستتحمل بالتأكيد المسؤولية، جئت لأحذركم، لو مات من قنبلة ولاّ ضربة ستكون أزمة دولية، أنا آسف لكن سيادتك ستكون ضحيتها. بدا متفهما فقال لى: أنا موافق يخرج من الجامع، لكن على فين؟ - حيروّح. - ماشى، لكن ماقدرش اخرّجه دلوقتى، إنت شايف الميدان عامل ازاى ومافيش شارع من غير مظاهرات (ساعتها زاد اطمئنانى على مصر ونجاح جمعة الغضب)، فيه مشاكل كتيرة والمسألة بتكبر، لكن أول ما ألاقى فرصة سأرسل لك عربية إسعاف ليخرج فيها. أجبت بحسم قاطع: لأ، إسعاف لأ، يمشى ف عربيته. سألنى: حضرتك ح تكون فين؟ ضحكنا وسط التوتر وأنا أقول: فى ميناهاوس. ثم عدت للجدية: فى الجامع. انصرفت من أمامه متجها إلى الميدان بينما تجاهلنى الجنود وسط حمى التأهب للضرب من جديد. عند المسجد كان المتظاهرون يقتربون من ناحية شارع الهرم، لم تردعهم الدروع ولا القنابل ولا المياه، كانوا بشرا يستأسدون، وشبابا يكبرون، وغضبهم ينطلق شظايا من حماس وتصميم، كان المشهد أذانا ليقظة مصر من رقدتها وإيذانا بأننا فى اليوم الأول من الأيام الأخيرة لنظام مبارك، فى محاولة مستميتة من الشرطة لمواجهة هذا الاستنزاف المثابر لقوتها من خلال كل هذه المظاهرات من كل هؤلاء المتظاهرين بدأت حدة القذف تتصاعد فى كل اتجاه وفوارغ القنابل تتساقط بغزارة تشبه سقوط فوارغ الرصاصات من مدفع رشاش، كان شبان يمسكون بالقنابل وهى تسقط على رؤوسهم فيعيدون قذفها على الشرطة فيندفع جنود بكمامات حاملين الهراوات لضرب الشبان فيتحفز المتظاهرون تصميما فيبدؤون الهجوم بالمئات على أصحاب الكمامات فتندفع لمساندتهم قوات بالمئات من جنود الشرطة فتتفرق المظاهرة فيعودوا مسرعين منهِكين رجال الشرطة، وكنت بين الفريقين أتلقى هراوات تأتى ناحيتى فتتجه مندفعة تعبرنى وحجارة يرميها المتظاهرون فأتفاداها بمساعدة متظاهرى المسجد الذين بدؤوا فى إسعافات أولية للمضروبين، وواصلوا خطبا لا تهدأ ونداءات تحرص على هداية العساكر وضمهم إلى صف المظاهرات، جذبنى أحمد عبد الظاهر الذى صاحبنى فى المظاهرة محاولا أن يكون حارسى الأمين فسقطت نظارته على الأرض، نظارته التى يصير أعمى رسميا من دونها، فحاول أن يجدها وأن يلتقطها ففقدنى وسط الاندفاعات، لكن الآن وقد أنقذ نظارته يحاول أن ينقذنى من موجة جديدة من الهجوم، وأدخلنى إلى المسجد مخنوقا بقنبلة انفجرت بجوارى فإذا بنا معا نعمى مؤقتا لفترة كفيلة بأن نجد نفسينا فى صحن المسجد مدفوعَين أو محمولَين، حتى الآن لا نعرف بدقة وسيلة الوصول. صعدت إلى الدكتور البرادعى وقد امتلأت إيمانا بأن الغضب ساطع. كان على هدوئه وعلى بلله وعلى مقعده وسط العشرات، أخبرته بالمفاوضات مع مدير الأمن وأعربت له عن تفاؤلى بأن مصر كلها تتظاهر، طبعا لا تليفونات ولا إنترنت فلا معلومات ولا تواصل، لكن ميدان الجيزة يعبّر تماما عن شكل هذا اليوم، فليس من المعقول أن تكون الجيزة هى الإقليم الوحيد الغاضب فى مصر. نكمل غدا بإذن الله...