وقفتُ أمام المسجد مندفعا فى قلب الميدان بينى وبين أكتاف الجنود سنتيمترات، فقد كان المشهد مذهلا مُهدًى من الله إلى المصريين خصيصا. كانت عشرات الألوف قد اقتربت من الميدان قادمة من شارع الهرم وتفريعاته يهتفون ويزحفون نحو الميدان، تراجعت قوة الشرطة من مفاجأة القدوم والهجوم فجاءتهم الأوامر بإطلاق قذائف الدخان والقنابل المسيلة للدموع. كان فرد أمن ممسكا ببندقيته القاذفة للقنابل يتقدم صفا من الجنود ويضرب بسرعة وبقوة فتنطلق عشرات القنابل فى الهواء لترتمى بين حشود المتظاهرين الذين يتراجعون إلى الوراء متفرقين مهرولين وتقترب قوات الأمن فتخرج عشرات من المسجد يَحُولون دون تقدمها بالهتاف واعتراض طريقهم فيلتفت العساكر إلى المسجد جريًا بهراواتهم للمتظاهرين الذين يحتمون بالمسجد خلف بوابته الحديدية ويستمرون فى الهتاف. تتوتر كل أعصاب الأمن وتنفلت منهم الصيحات والصرخات والأوامر، فوق الكوبرى المطل على الميدان تندفع سيارات مدرعة تغلق الطريق الصاعد إلى الكوبري من ناحية شارع ربيع الجيزي الرئيسى القادم من مجمع المحاكم حيث عشرات الآلاف تظهر قادمة من هناك تحاول صعود الكوبري والمرور من أسفله. تطلق الشرطة القنابل والقذائف ناحيتهم وقد أغلقوا الكوبري أمامهم وتوزعت مئات العساكر بطول الكوبرى، من خلف صفوف العساكر نرى آلافا قادمين من كل زقاق حول الميدان. ترتجف أعصاب الأمن مرات وترتبك حساباتهم، يشكلون دوائر لضرب وقذف المتظاهرين القادمين من كل فج عميق بالقنابل التى تسهم في تراجع المظاهرات وتشتتها ثم ما تلبث أن تعود بذات الحماس ونفس القوة. رجل القذائف لا يلبث أن يذهب إلى كل مكان وزاوية يضرب بقسوة وعصبية لم يعد يحتمل كل هذا الضغط فصار عدوانيا بشكل هوسى يعمل لحسابه حتى ينتهى المشهد المعبّأ بالدخان والمياه التى باتت تُضرب ناحية كل مظاهرة. بينما قرر المتظاهرون بعد كل هذا الدخان أن يقذفوا الجنود بالحجارة التى صارت كالمطر فوق الرؤوس تنطلق من كل مكان ناحية كل مكان. تتقدم قوات مكافحة الشغب بكل الأوامر المحرِّضة تندفع نحو المتظاهرين بالعصى والهراوات وتتصدى بالدروع السوداء، تتراجع المظاهرات وتتفرق لكنها لم تبتعد. انفلتت الشرطة تماما فاستداروا ناحية ثغرة المتظاهرين التي تقف أمام المسجد تهتف محتمية بالمسجد كملجأ لها بمجرد ضربها، استدارت الشرطة ناحيتنا وبدأت تضرب القنابل داخل المسجد فاندفعت الجموع إلى حرم الجامع متعثرة بالدموع ومحتمية بالبصل على الأنوف، حرّكت الأكُف باب المسجد وفتحته بقوة كاد معها ينكسر وقد ملأ الدخان المسجد وانتشر المئات بالأحذية محتمين داخل الجامع الذى تحول إلى ساحة مستشفى. صراخ على أى أطباء موجودين، سقوط جرحى بضربات القنابل فى الظهور وفى الوجوه واختناقات أدت إلى سقوط عشرات على أرض المسجد كأنهم موتى يتلوّون، كنت أبحث عن الدكاترة محمد البرادعى والغار وعبد الجليل، صحبهم المتظاهرون إلى الطابق الأعلى فى المسجد بعدما كاد الدخان يخنقهم. صعدت وجلست مع الدكتور عبد الجليل مصطفى على أرض المسجد، طمأننى على صحة البرادعى، كنا فى منتهى التألق المتأنق الذى يليق بغرقى بالماء ومدفونين بروائح البصل والخل. لكن الآلاف القادمين إلى الميدان أكدت لنا أن مصر كلها خرجت، ذهبت إلى الدكتور البرادعى اطمأننت على صحته لكننى اقترحت عليه أن أفاوض الأمن كى يخرج من المسجد إلى البيت خشية على صحته خصوصا أن المشهد كان يوحى بدخول وشيك لقوات الشرطة إلى صحن المسجد. وكان القلق على حياة الرجل أكيدا، وافق على اقتراحى فنزلت إلى الميدان وقد امتلأت أرضه بالمياه بحيرات وبِركا وآلافا من عبوات وفوارغ قنابل الدخان المسيلة للدموع مع قِطع الحجارة، ورأيت ضباطا وجنودا يتابعون النار تشب فى سيارة أمام أحد المحلات دون أن يتحركوا، صرخت مع عشرات المتظاهرين الذين عادوا للتمركز أمام باب المسجد أن يطفئوا النيران لكنهم لم يعيروا صراخنا اهتماما. جرى شابان وسط الحصار الأمنى نحو السيارة وبدآ يرميان عليها رملا فى محاولة لإطفائها وبدأت نار أخرى تشتعل فى سيارة ثانية وسط لا مبالاة الشرطة,فسارع آخرون لإطفاء الحريق الجديد. اندفعت ماشيا بثقة كاتب لا يجد مشكلة فى كونه معارضا ومتظاهرا ومبلولا وسط الميدان ناحية صفوف العساكر المتصلبة المتوترة، لم يفهم أحد معنى هذا التحدى بالدخول فى صفوفهم، بعضهم يعرفنى فاحتار بين أن يمنعنى أو يتركنى أو يضربنى، بحثت عن الضابط الذى بثّنى حبه قبل أن يضربنى بالمياه الكبريتية فلم أجده، كنت مصمما وكانوا مترددين فقلت لهم بحسم: عايز أقابل أكبر واحد فيكم! نكمل غدا بإذن الله...