كان أذان ظهر جمعة 28 يناير قد صدح، الزحام المرتبك دفعنا جميعا وفى قلبنا الدكتور محمد البرادعى إلى الجلوس على أرض الميدان فى مواجهة المسجد للصلاة، وجوهنا للقبلة وظهورنا لسور الميدان، وحول كل سنتيمتر منا جنود وضباط الأمن المركزى وقوات مكافحة الشغب. شرع البعض فى خلع أحذيته فأشرت عليهم أنْ لا، نصلى بها فهذه صلاة فى ميدان جهاد، فرشُوا أوراق صحف ديست وتمزقت وطارت قبل الجلوس عليها، لم نسمع شيئا من الخطبة، حيث كان التدافع والصخب والحوارات المتبادلة والاقتراحات المتوالية تمنع سماع شىء، التصق بنا المخرج السينمائى داوود عبد السيد وزوجته الكاتبة كريمة كمال، فأحسست مصر المدهشة، داوود القبطى يصلى معنا جمعة الغضب. أقيمت الصلاة ومرت دقائقها المحتشدة، قيل لنا فى ما بعد إنهم غيّروا خطيب المسجد المعتمد وجاؤوا بغيره، لكن الخطبة كانت دفاعا عن الحق والحرية، فجاءت بشارة لدى المتظاهرين الذين سمعوها، إن خطيبا جىء به لإجهاض المظاهرة قد قال غضبا، وإن الجمعية الشرعية للمسجد أصدرت بيانا من ثلاث نقاط، النقطة الأولى تدعو الحكومة إلى رد المظالم، والنقطة الثانية تؤكد فيه حق المتظاهرين فى التعبير عن رأيهم، والنقطة الثالثة تدعو المتظاهرين إلى عدم الاعتداء على أى ممتلكات عامة أو خاصة. وقفنا على حيلنا وبدأت الهتافات مع دفع الجموع الدكتور محمد البرادعى وهو ممسك بيدى لتصدر المظاهرة، مشيْنا معا مترا واحدا فإذا بضابط يقف فى صدارة صف جنود الأمن المركزى المدججين بالدروع والخوذات والعصى السوداء الغليظة المتأهبة، يقول لى ابعد يا أستاذ إبراهيم أنا باحبك. لم أبعد رغم حبه، فما كان إلا من سيارة مدرعة تمنع عنا الطريق ومعها سيارة قذف المياه تطلق من مدفعها رشات ماء كالطوفان فى اتجاهنا، كنت والدكتور البرادعى أول اثنين فى المظاهرة فقذفتنا المياه المندفعة المركزة على الرجل للوراء نتساند على حشود المتظاهرين خلفنا حتى لا نسقط بينما تتراجع الحشود وتتشابك، ألمح وأنا أحاول إنقاذ نظارتى من الطيران من على وجهى، الدكتور البرادعى يحاول ذات الإنقاذ لنظارته، أغرقتنا المياه حتى بللت ما تحت جلودنا، تثاقلت الحركة مع حمولة المياه الهائلة التى تشربتها ملابسنا وأحذيتنا وتحولت الأرض تحتنا إلى بركة مياه زلقة وعكرة والمياه تتواصل واندفع العشرات من المتظاهرين يحيطون بالبرادعى وسارعوا بالدخول به إلى المسجد. كانت دوائر المتظاهرين تتلقى المياه مع اقتحام صفوف الأمن المركزى الساحة الأمامية للمسجد، تفرق متظاهرون لشارع الهرم يبتعدون عن حصار الجنود واقتحاماتهم، وآخرون دخلوا إلى شوارع وأزقة محيطة، بينما دخل بعضنا إلى المسجد الذى وجدت أيدى تدفعنى نحوه قبل سقوط أول قنبلة دخان مسيلة للدموع فى حجر المتظاهرين. حين دخلت وأصوات القنابل تدوّى وتنفجر والدخان يتصاعد ويضرب العيون بالدموع والأنوف بالإغماء: سألت أين الدكتور؟ سلالم جانبية خلف بوابة قصيرة ضيقة تقود إلى باب المسجد، على السلالم وأمام بوابة المسجد تجمع العشرات منا قرروا فجأة أن يهدوا قوات الأمن إلى الحق ويخطبوا فيهم، مذكّرين بما يفعله النظام من فساد، خصّوا جنود الأمن المركزى بخطب وعظية عن وضعهم الاقتصادى السيئ ومدى استغلال قياداتهم لهم، كانت قوات مكافحة الشغب تلتصق بالمسجد فى صف طويل يليه صف آخر يمنعون العبور والمرور من الميدان، وفى وضع التأهب والاستعداد. كانت قطع البصل وزجاجات الخل قد ظهرت فى أيدينا فورا عقب إطلاق القنبلة الأولى، حيث استعد المتظاهرون طبقا لتعليمات طويلة مستمدة من خبرات تونسية مدهشة مدوا بها متظاهرى مصر عبر الإنترنت بما يجب أن نستعد به فى مظاهرات تتعرض للاعتداء بالقنابل المسيلة للدموع وقنابل الدخان، كنت مبللا جدا لكننى عندما خلعت حذائى لدخول المسجد وجدت مياها تتساقط من داخل الحذاء فوجدت نفسى أضحك، كان المسجد يعج بالمئات فى هذه اللحظات ويلتف كثيرون حول الدكتور البرادعى جالسا على مقعد فى منتصف المسجد، بدأت الدائرة تتسع عند دخولى، اطمأننت عليه وهو يستمع إلى عشرات الأصوات التى انتهزت فرصة المشهد وقررت أن تدلى بشهادتها حول ما يجرى فى البلد للبرادعى شخصيا لم يمنعها البلل ولا الدخان من أن تخطب فيه. فى المسجد كان الدكتور عبد الجليل مصطفى والدكتور محمد أبو الغار فى لحظات التأمل والترقب والمناقشات مع العشرات الذين بدأت أسئلتهم تتقاطع وتتكرر، خرجت إلى الميدان بعد دقائق، كانت الثورة قد بدأت فعلا.