من قرأ تاريخ أيام الإسلام الأولى، أو شاهد الأفلام التي أنتجت عنها؛ لا بد وأن يلتصق بعقله مشهد تعذيب الصحابي الجليل بلال بن رباح على يد مولاه أمية بن خلف، فكان أمية يطرحه على رمال الصحراء المكية الملتهبة، ويجرده من ملابسه، ويصيح في وجهه بصوت حاقد كالفحيح: أكفر بدين محمد.. أذكر محمدا بسوء واذكر آلهتنا بخير.. فلا يكون من العبد المؤمن الضعيف إلا أن يقول في صوت قوي: أحد أحد .. الله أحد، فيضع أمية الكافر صخرة كبيرة على صدره، ويكرر على مسامعه أمره له بالكفر وسبّ محمد، فيتحول الصوت القوي ضعيفا من فرط التعذيب والإهانة: أحد أحد .. الله أحد. بالأمس القريب، شاهدت فيلم (الرسالة) من إنتاج وإخراج الراحل مصطفى العقاد، وكان فيه هذا المشهد المؤثر، ومرت أيام رمضان، ثم طيّرت الفضائيات الإخبارية ذات المشهد ولكن ليس على أرض الصحراء الساخنة في مكة أيام الإسلام الأولى، ولكن بعدها ب 1444 سنة، في مدينة خالد بن الوليد؛ حِمْص التي اشتعلت فيها ثورة السوريين الأحرار، ولن تنطفئ نارها إلا بزوال الطاغية إن شاء الله.. المشهد كالآتي: قوات الجيش السوري (الباسل) قبضت على رجل حمصي في أعقاب إحدى المظاهرات الليلية التي أُتبعت بقصف المدينة بالصواريخ والدبابات، فسقط شهيدا من سقط، وجرح من جرح، المهم وقف الضابط (الشجاع) أمام المتهم وأمسكه من وجنته بطريقة مؤلمة، وأخذ يصيح في وجهه: قول لا إله إلا الأسد .. يا بن الق..... ، ويصفعه على وجهه صفعة يرن صوتها في الهاتف المصوِّر، قول لا إله إلا الأسد.. يا بن الش....، ومن قلقلة قافاته تعرف جيدا أنه ضابط علوي، والشاب الموقّف يصيح بصوت ملؤه القوة واليقين: لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله، وقافات الضابط العلوي تسبه وتلعنه بأقبح الألفاظ، وينهال على وجهه باللكمات والصفعات كلما هلل باسم الله.. عندما يظن الحاكم أنه أصبح فوق الناس، ويهيئ له زبانيته وأذنابه أنه الأوحد والأنسب والأجمل والأكمل والأروع والأذكى.. وكل صيغ التفضيل الممكنة وغير الممكنة؛ لا ينقص الصورة إلا التأليه الفعلي بالعبادة والعقيدة، فهذا الضابط العلوي يعتقد أن حياته ومماته ومصيره ورزقه وعمله ونجاحه وفشله ؛ كلها بيد إلهه بشار الأسد، فلا عجب أن يريد أن يجبر الشاب الثائر أن يقر بما أقر هو وفصيلته به؛ أن الرئيس هو الإله الأوحد !! حكى لي أحد السوريين من المغضوب عليهم في بلادهم؛ أن زبانية الأسد الكبير حافظ كانوا أساتذة في هذا النوع من الكفر والتأليه، ففي إحدى سنوات حكم حافظ الأسد أيام كان بشار طفلا يلهو؛ كان الشبيحة يقومون بمظاهرات تجوب شوارع دمشق هاتفين: يا الله حَلّك حَلّك .. حُط حافظ محلك، يعني كفاية عليك يا رب كدة وحط حافظ مكانك !!! وهذا الواقع المرّ في سوريا؛ هو ما يزيد مسألة الثورة تعقيدا، وقد يطيل أمدها طويلا، فبشار حرص منذ توليه الرئاسة وراثة عن أبيه حافظ؛ أن يكون العلويون هم المسيطرون على كل مناحي السلطة في سوريا، فالمديرون والضباط والأمن والمخابرات والوزراء والسفراء والموظفون الكبار ونظار المدارس ومديرو الجامعات والمعاهد..الكل يجب أن يكون علويا يسبح بحمد الرئيس الإله، أما الجيش السوري الذي يطلق نيران أسلحته الخفيفة والثقيلة على صدور شعب سوريا الأبي الأعزل؛ فلا يعتبر جيشا سوريّا بقدر ما هو جيش علويٌ، رسخ الأسد الأب فيه روح الطائفية، فأصبح أكثر من 90 ٪ من ضباطه علويين، في حين أن العلويون لا يشكلون أكثر من 10 ٪ من تعداد السكان، وكلهم يعبدون بشار الذي أخرجهم أبوه مما كانوا فيه من الذل والوظائف الدنيا والخدمة في البيوت، فأصبحوا برئاسته حكاما على رقاب الناس يخدمهم أبناء الطوائف الأخرى على غلبتهم العددية، فكيف لا يؤلهونه ؟ إن موقف الجيش ومدى استقطابه من قِبَل الحاكم هو العنصر الفيصل في إنهاء الثورات بسرعة، وما حدث في مصر وتونس هو خير دليل على أن الجيش في كل منهما لم يكن يستقطبه أو يسيطر عليه الرئيس الذي قامت الثورة لتخلعه، أما في ليبيا وسوريا واليمن؛ فموقف الجيش مختلف إما لظروف البلاد القبلية كما في اليمن وليبيا، أو للظروف الطائفية كما في الحالة السورية .. لك الله واسلمي يا سوريا.