محافظ الغربية يتابع أعمال توريد القمح بشونة محلة أبو علي    بدء التوقيت الصيفي فى مصر 2024 .. تغيير الساعة الليلة    «بحوث الصحراء» يكشف مشروعا عملاقا في سيناء لزراعة نصف مليون فدان    نائب محافظ البحيرة: تركيب إنترلوك بمنطقة السنوسي بحوش عيسى بتكلفة 2 مليون و 400 ألف جنيه    وزارة التخطيط تشارك في المنتدى الأفريقي للتنمية المستدامة بأديس أبابا    مسؤول أمريكي: بيان مرتقب من واشنطن و17 دولة أخرى لإطلاق سراح المحتجزين بغزة    الرئيس الفلسطيني يؤكد لنظيره الفنلندي ضرورة الإسراع في وقف إطلاق النار بغزة    ممثلة الرئيس الأوكراني في القرم: نكافح لاستعادة أراضينا    فائز ببطولة الفروسية للناشئين على هامش «البطولة العسكرية»: منبهر ب«نادي العاصمة»    فينيسيوس يقود قائمة ريال مدريد لمواجهة سوسيداد بالدوري الإسباني    رئيس اتحاد الجودو: الدولة المصرية لا تدخر جهدًا لدعم الرياضة    انتقاما من أسرتها.. مصرع فتاة حرقا بسبب خلافات الجيرة بالفيوم    خطوات تحميل امتحانات دراسات الصف الثالث الإعدادي الترم الثاني pdf.. «التعليم» توضح    ريهام عبد الغفور عن تكريم المسرح القومي لاسم والداها: سيرتك حلوة وأثرك طيب    أول تعليق من منى زكي بعد فوز فيلمها «رحلة 404» في مهرجان أسوان    لقاء عن التراث الشعبي واستمرار ورش ملتقى فتيات «أهل مصر» بمطروح    احتفالا بذكرى تحريرها.. المطرب مينا عطا يطرح كليب "سيناء"    دعاء يوم الجمعة.. ساعة استجابة تنال فيها رضا الله    تاريخ موعد عيد الأضحى في مصر فلكيًا مدفوعة الأجر للموظفين 2024    "حزب الله" يستهدف جنودا إسرائيليين في محيط موقع الضهيرة    مدرب الترجي: سنعمل على تعطيل القوة لدى صن داونز.. وهدفنا الوصول لنهائي إفريقيا    رئيس جامعة قناة السويس يُعلن انطلاق أكبر حملة تشجير بجميع الكليات    رئيس بيلاروس يحذر من كارثة نووية حال تواصل الضغوط الغربية على روسيا    تفاصيل الاجتماع المشترك بين "الصحفيين" و"المهن التمثيلية" ونواب بشأن أزمة تغطية جنازات المشاهير    بلغ من العمر عتياً.. مسن ينهى حياة زوجته بعصا خشبية بقرية البياضية بالمنيا    تفاصيل اجتماع المجلس الأعلى للمستشفيات الجامعية برئاسة وزير التعليم العالي    دعاء الاستخارة بدون صلاة .. يجوز للمرأة الحائض في هذه الحالات    حسام المندوه يعقد جلسة مع جوميز في مطار القاهرة | تفاصيل    حبس شاب لاستعراضه القوة وإطلاق أعيرة نارية بشبرا الخيمة    مصر تنافس على ذهبيتين وبرونزيتين في أول أيام بطولة أفريقيا للجودو    بشرى للسيدات.. استحداث وثيقة تأمين على الطلاق يتحمل الزوج رسومها كاملة    بلجيكا: استدعاء السفير الإسرائيلي لإدانة قصف المناطق السكنية في غزة    الأردن يدين سماح الشرطة الإسرائيلية للمستوطنين باقتحام الأقصى    ضمن الموجة ال22.. إزالة 5 حالات بناء مخالف في الإسكندرية    رد فعل غير متوقع من منة تيسير إذا تبدل ابنها مع أسرة آخرى.. فيديو    التحقيق مع المتهم بالتحرش بابنته جنسيا في حدائق أكتوبر    إصابة سيدة وأبنائها في حادث انقلاب سيارة ملاكي بالدقهلية    تحرير 498 مخالفة مرورية لردع قائدي السيارات والمركبات بالغربية    علماء يحذرون: الاحتباس الحراري السبب في انتشار مرضي الملاريا وحمى الضنك    كيفية الوقاية من ضربة الشمس في فصل الصيف    وزارة العمل تنظم فعاليات «سلامتك تهمنا» بمنشآت السويس    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    خبيرة فلك: مواليد اليوم 25 إبريل رمز للصمود    محافظ الأقصر يهنئ الرئيس السيسى بعيد تحرير سيناء    هشام الحلبي: إرادة المصريين لم تنكسر بعد حرب 67    محافظ شمال سيناء: كل المرافق في رفح الجديدة مجانًا وغير مضافة على تكلفة الوحدة السكنية    أمين الفتوى لزوجة: اطلقى لو زوجك لم يبطل مخدرات    7 مشروبات تساعد على التخلص من آلام القولون العصبي.. بينها الشمر والكمون    «التعليم» تستعرض تجربة تطوير التعليم بالمؤتمر الإقليمي للإنتاج المعرفي    موعد مباراة الزمالك وشبيبة أمل سكيكدة الجزائري في نصف نهائي كأس الكؤوس لليد    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    عادل الغضبان يهنئ أبناء محافظة بورسعيد بالذكرى ال 42 لعيد تحرير سيناء    افتتاح وتشغيل 21 سرير عناية جديد بمستشفي الكرنك في الأقصر تزامنا ذكرى تحرير سيناء    خبير في الشؤون الأمريكية: واشنطن غاضبة من تأييد طلاب الجامعات للقضية الفلسطينية    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    ملخص أخبار الرياضة اليوم.. إيقاف قيد الزمالك وبقاء تشافي مع برشلونة وحلم ليفربول يتبخر    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سنن التغيير فى السيرة النبوية (3)
نشر في الشعب يوم 03 - 07 - 2009

خلاف الإسلاميين مع الأنظمة العربية عقائدى وليس سياسيا فحسب
مشركو مكة كانوا يؤمنون بالله ويشركون معه آلهة أخرى وحكام اليوم يشركون معه أمريكا والغرب والشرعية الدولية
موالاة الغرب وأمريكا دون المؤمنين من نواقص الإسلام
مشركو مكة وافقوا على الإسلام شرط عدم التعرض للإسلام وحكام اليوم يسمحون بالحركات الإسلامية شرط عدم التعرض للملك أو الرئيس
فى تقديرى هذه هى النقطة المحورية، التى تمثل مشكلة المشاكل لدى الحركات الإسلامية المعاصرة، ويمكن أن نقول إنها انقسمت إلى قسمين كبيرين: قسم رأى أن الحركات الإسلامية تعيش فى مرحلة الاستضعاف المكى، وهى فى المعارضة، لذلك يجب أن تقتضى بسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام فى مكة, ولكنهم حصروا المفهوم المكى فى مرحلة السرية!! ولم يستخلصوا الدروس الأساسية من مرحلة الجهر بالدعوة حتى الهجرة للمدينة (10سنوات)، ولم يلتزموا حتى بضوابط المرحلة السرية التى لم تكن تعنى أبدا: أنصاف الحقائق، أو لى المبادئ والأهداف العليا، أو المساومة حول الأفكار.. فهى لم تعن فى سيرة النبى إلا مجرد مرحلة الشرنقة التى لابد أن تمر بها الفراشة قبل ولادتها، أو مرحلة الجنين فى ظلمات الرحم. ولم تعنى التماوت والإستكانة وإخفاء الحقائق أو المرامى الأصلية للدعوة. وتعجب من حركات إسلامية بعشرات ومئات الألوف وأحيانا الملايين، بينما يتحدث قادتها عن أنهم فى مرحلة الشرنقة!! كيف بالله عليكم؟ ما لكم كيف تحكمون؟! ويكون الرد على ذلك.. من قال إننا نخفى الأهداف؟! من قال إننا لا نقول الإسلام هو الحل؟!
إننا ندخل الانتخابات المحلية والتشريعية وأحيانا الرئاسية (كالجزائر)، ونقول رأينا فى سياسات الأنظمة الحاكمة وهى أراء معارضة بلا مواربة أو التفاف.
ونقول لا.. ليس هذا هو بيت القصيد. فالجهر بالدعوة.. كما سنوضح من سيرة المصطفى عليه أفضل الصلوات - ليس مجرد الجهر بالمعارضة، ففى كل المجتمعات توجد فرق معارضة للحكم. ولكن أصحاب الرسالات ليسوا مجرد معارضين للحكم، إنهم يدخلون فى اشتباك سافر مع الحكم الطاغوتى (ولنعرفه بأنه الحكم الظالم الفاسد والذى لا يحكم بما أنزل الله، وهو مشتق من الطغيان) ويعلنون عدم مشروعيته وضرورة الإطاحة به، ولابد أن يعلنوا أولا الكفر بالطاغوت (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [البقرة-256]. أى أن إعلان الكفر بالطاغوت هو علامة البدء فى الجهر بالدعوة وليس أقل من ذلك فكل فرق المعارضة التى تدور فى فلك النظام الفاسد تعارضه، ولكن الإسلاميين لا يكتفون بالمعارضة ولكنهم يطرحون الإطاحة به ويطرحون مشروعهم الحضارى الشامل، ويدخلون فى مواجهة شاملة بكل أساليب المقاومة السلمية ضد هذا النظام، منذ اللحظة الأولى للجهر بالدعوة، أى منذ اللحظة الأولى من الفراغ من بناء النواة القيادية الصلبة.
والإقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام فى هذا الموطن يعنى الإعلان عن عدم مشروعية النظام القائم والسعى للإطاحة به، وأن يكون ذلك الهدف معلنا للكافة وليس لأعضاء التنظيم فحسب، لأن التعبير يتم بالشعب، والتنظيمات هى التى تقود الشعب سياسيا وفكريا، وأيضا من خلال تنظيم حركة عصيانه ضد النظام الجائر. خاصة ونحن أمام أنظمة ترفض صراحة المرجعية الإسلامية، وتعلن الولاء لمرجعية الولايات المتحدة وتوالى الصهيونية والغرب عموما. إن الحاكم الذى يعلن أن العلاقات مع أمريكا أزلية واستراتيجية هو حاكم يعلن الكفر البواح ويعارض صراحة ما هو معلوم من الدين بالضرورة ، ذلك أن موالاة المؤمنين دون الكافرين من أساسيات الدين، وقد ورد مؤخرا فى بيان لعلماء المسلمين أن موالاة الأعداء من نواقض الدين، نحن فى مصر وفى البلاد العربية والإسلامية المماثلة نواجه مسألة تمس جوهر العقيدة، ولسنا أمام خلافات سياسية بسيطة أو كبيرة فحسب مع الحكام الموالين للولايات المتحدة والغرب وإسرائيل والصهيونية العالمية. وأن موالاة حكام كهؤلاء هو الذى يماثل عبادة الأوثان فى عهد محمد عليه الصلاة والسلام ، والحقيقية فإن رسولنا الأكرم لم يكن يحارب هذه الدمى (الأوثان) المصنوعة من الخشب أو الحديد أو النحاس، ذلك إن تحطيمها أسهل من السهولة ولكنه يحارب فى جوهر الأمر الطواغيت الذين يستخدمون هذه الوسائل للهيمنة على خلق الله ، وإعلاء سلطانهم فى جزيرة العرب. فالحقيقة أن الصراع كان مع أئمة الكفر أبى لهب وأبى جهل وغيرهما من قيادات المجتمع العربي، ولم يكن الصراع مع اللات والعزى أو مع هبل!! وإلا لأعطينا هذه الأصنام قيمة حقيقية!! هذه العقيدة الشركية أصبحت دستور ومشروعية المجتمع والنظام الحاكم والطعن فى هذه العقيدة يؤدى حتما إلى سقوط مشروعية النظام ثم سقوط النظام نفسه.
عندما يخطب فقهاء السلطان أو يتحدثون عن صدر الدعوة الإسلامية، ينتهون إلى أن الشرك قد انتهى فى العالم الإسلامى ، منذ فتح مكة وطالما لم تعبد تماثيل وأصنام جديدة فإن الشرك قد انتهى! وهذا يؤدى إلى تحويل سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى قصة تاريخية، بل يحول القرآن الكريم إلى كتاب تاريخ يؤرخ للشرك الذى انتهى!!
وواقع الأمر أن المشكلة فى الطغاة والمستكبرين الذين يودون أن يعبدوا من دون الله، سواء أكانت معهم تماثيل أم لم تكن والله سبحانه وتعالى قال (فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ ) [التوبة-12] ولم يقل قاتلوا اللات والعزى !! ومشكلة سيدنا إبراهيم كانت أساسا مع الملك وليست مع الأصنام، وموضوع كل الأنبياء كان مع المستكبرين وأكابر المجرمين والذين (اتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا) [نوح21-22] أما الأصنام (وداً وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا) فكانت أدواتهم فى هذه الهيمنة حتى وإن ظن بعضهم إنها حقا تضر وتنفع فهذا لا يغير من جوهر الأمر شيئا والشرك أنواع لم يرتبط أبدا فى القرآن الكريم بالتماثيل فحسب، ففرعون موسى كان يعتبر نفسه إلها بشكل مباشر، وهذا هو النمط السائد فى عصرنا الحديث. ألا يقولون بصريح العبارة (مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى) و (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) ، وإلا ما هو توصيف الحاكم الذى لم يخطئ أبدا على مدار عشرات السنين من حكمه ولا حتى فى هفوة صغيرة، فهو لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، مثل هذا الإنسان الحاكم بهذا التعريف لا يعنى فى اللغة العربية وكافة اللغات إلا أنه إله!!
أما القسم الآخر الكبير من الحركات الإسلامية فقد قفز فورا إلى دروس وقوانين المرحلة المدنية أى بعد الهجرة) وهى دروس إدارة الصراع من موقع الدولة، وأعتبر هؤلاء أن المرحلة المكية قد نسخت، وأنه لا يوجد أمام المسلمين الآن سوى قتال الحكام الظالمين والفسقة، فكانوا كالمنبت لا أرض قطع ولا ظهرا أبقى.
والآن لنتأكد من صحة مقولاتنا السابقة على مرحلة الجهر بالدعوة، والتى نسميها إعلان حرب، بمعنى خوض معركة موت أو حياة فى سبيل الرسالة حتى قال أئمة الكفر- فى المرحلة المكية - إما أن نهلك محمداً أو يهلكنا!
طبيعة النظام السياسى القائم أو الشرعية التى يستند إليها:
كان النظام السائد فى الجزيرة العربية يستند فى مشروعيته إلى دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[البقرة135].
وكانت مكة العاصمة الروحية والاقتصادية والسياسية لقبائل العرب، وكانت قريش هى واسطة العقد بين القبائل وهى القبيلة القائدة، مع ملاحظة أن الوضع السياسى كان أشبه باللامركزية، فلم تكن هناك دولة مركزية بالمعنى المعروف للكلمة قديما أو حديثا، ولكن مكة هى العاصمة الروحية التى يأتى إليها العرب كل عام للحج، وهى المركز التجارى الذى ينظم تجارة العرب مع دول الجوار وفيما بينهمي، وهى مركز سوق عكاظ الثقافى وغيره من الأسواق، وبالتالى كان أئمة مكة ومن ثم قريش هم الحكام الحقيقيون لجزيرة العرب فى إطار هذا الوضع القبلى اللا مركزي. وقريش هى القبيلة الأكثر مكانة وهيبة بين كل قبائل العرب.
أما دين إبراهيم فقد اعتراه التدهور، واختلط الحق بالباطل فى عقيدة العرب ، وزحف الباطل بهمة ونشاط حتى غلب على الحق عبر القرون.
والدليل أن الكعبة هى التى بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام والأشهر الحرم من بقايا دين إبراهيم ، ومناسك الحج كانت تقريبا هى المناسك التى أقرها الإسلام وظل العرب يعظمون البيت ويطفون به ويمارسون الحج والعمرة بما ذلك الوقوف بعرفة وهدى البدن - والمرور بمنى والمزدلفة والسعى بين الصفا والمروة، ولكن حرفوا التلبية إلى (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك) فيجمعون بين التلبية لله والتلبية للأصنام ، ووضعوا الأصنام فى حرم الكعبة، وابتدعوا الطواف عرايا، ثم غلب الانحراف عن أخلاقيات الدين المعروفة بانتشار الفسق والزنا والخمر والربا واستسهال القتل.. الخ
وكان الحنفاء الموحدون قلة تتناقص مع الأيام حتى كانت تعد على أصابع اليد أو اليدين قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.. كقيس بن ساعدة الأيادى ، ورئاب الشني، وزيد بن عمرو. وكلهم ماتوا قبل البعثة، وإلا كانوا قد التحقوا بها وزيد بن عمرو كان أشهرهم وربما آخرهم حيث توفاه الله قبل البعثة بسنوات قليلة.. وكان يجاهر بحنفيته فى حرم الكعبة، حتى ضاق به أئمة الكفر فطردوه من مكة وحرموا عليه دخولها. ولكن دخل ابنه فى الدعوة مبكرا وهو سعيد بن زيد زوج أخت عمر بن الخطاب.
وبالتالى فإن مشركى مكة يظنون أنهم يؤمنون بالله، بل ويحلفون به، ويدعونه أحيانا مباشرة ويروى أن أبا جهل دعا الله عشية موقعة بدر، أن ينصر الطرف الذى هو على حقر(طبعا هو لم يلتزم ولم يقر بعد الهزيمة أنه على باطل)! وبعد هزيمة بدر، أعلن أنه لن يغتسل من جنابة حتى ينتقم من محمد، وهذا يشير إلى أن حتى تفاصيل الطهارة فى الإسلام كانت عندهم من بقايا دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وكذلك كان ختان الرجال مسألة مستقرة ومقدسة.
المعركة لم تكن حول قضية "وجود الله" ولكن حول "الشرك به" وما يرتبط بذلك من مصالح أضحت مستقرة. والقرآن الكريم يوثق هذه المسألة(وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [العنكبوت-61] . (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [الزمر-38] . (ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِى اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) [غافر-12] . (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) [الزخرف-9] . (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [الزخرف -87] .
هذه المسألة مهمة للغاية، لأن الحكام فى عصرنا الحديث عندما ينتقدون الحركات الإسلامية يقولون كلنا مسلمون وموحدون بالله فلماذا تريدون أن تحتكروا الدين ؟!
فالقضية ليست مجرد الخلاف حول " وجود الله " و " وجود خالق لهذا الكون " ، ولكن حول نقاء التوحيد ونقاء التوحيد ليس كلمة تقال (لا إله إلا الله)، ولكنها التزام كامل، فالتوحيد الخالص لله له تبعات، فالحكام وإعلاميوهم الذين يقولون كلنا مسلمون نقول لهم: لماذا لا تحتكمون إلى القرآن والسنة فى اتخاذ قراراتكم وتحديد سياساتكم ؟! بل إن سياساتهم تتعارض بشكل حرفى مع أوامر الله ونواهيه. أشرنا من قبل إلى مسألة موالاة الأعداء، ونشير كأمثلة إلى : الوجه الآخر لموالاة الأعداء، مناوأة ومعاداة المؤمنين وأبناء الأمة ، كما حدث مع العراق وفلسطين وإيران وسوريا وأفغانستان، وفى فترة سابقة مع ليبيا والسودان ، وقبل ذلك الإضرار بمصالح الشعب المصرى لصالح الولايات المتحدة بإتباع توجيهات صندوق النقد الدولى والبنك الدولى التى خربت الاقتصاد المصري، وإقامة سوق مشتركة مع الكيان الصهيونى (الكويز) بدلا من إقامتها مع العرب والمسلمين، عدم الالتزام بالشريعة فى التشريعات القانونية ، الخضوع للغرب فى توجيهاته فى قضايا المرأة والطفولة والأسرة بالمخالفة الصريحة لنصوص القرآن والسنة ، تحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرم الله. إلغاء الجهاد بقرار جمهورى.. الخ فهل مثل هذه الأمور من فروع الدين أو نوافله أم من صلبه وفروضه ؟!
ليست العبرة بالادعاءات اللفظية ، ولكن بالأفعال، وان كانت حتى أقوال حكامنا يعتروها العوار الصريح . بل من العجيب وعلى كثرة ما وردنا عن العصر الجاهلى ، فإننا نرى فى عصرنا الحالى فظائع تتجاوز هذا العصر القديم المنكود ، فمع تطور آلات القمع .. أصبح التعذيب أشبه بالإنتاج الكبير فى المصانع بدلا من الورش الصغيرة، وقتل الناس بالمئات والآلاف بالجملة بغير حق، أو بمحاكمات صورية وسجون لم يحلم أبو لهب بحجمها واغتصاب واسع النطاق للنساء، وهيمنة بعض الشواذ جنسيا على قطاعات بالدولة ، ودس السم فى أكل الشعب كله من خلال المبيدات المسرطنة والهرمونات.
ويخشى بعض الإسلاميين من الوقوع فى خطأ تكفير مسلم ، وقد تحولت إلى خشية مرضية كرد فعل لتوسع بعض الحركات الإسلامية الشابة فى ذلك ، ولكن رد الفعل كان مبالغا إلى حد حذف كلمة الكفر من الخطاب الإسلامى رغم ورودها أكثر من 50 مرة فى القرآن الكريم، وحذف كلمة الشرك رغم ورودها فى القرآن الكريم أكثر من 200 مرة ورغم أن قضية الكفر والإيمان هى قضية القرآن الكريم وكافة الأنبياء والرسل وكل القضايا الأخرى متفرعة عنها. حتى أنك لا تسمع كلمة كفر أو شرك فى أى خطبة جمعة إلا إذا كان الحديث يدور حول مشركى مكة منذ أكثر من 14 قرنا ! وبيانات الحركات الإسلامية خلت من هذين المصطلحين وكأنهما عار ينبغى تجنبه ومع ذلك فالأمر تجاوز ذلك إلى حد عدم تكفير من يعلن صراحة أنه كافر!! ولا يوجد للدين أكثر من ذلك.
ورغم كل ذلك فإن كل الموبقات التى أشرنا إلى عناوينها آنفا والتى يرتكبها حكام مصر وأغلب حكام العرب والمسلمين، كافية للعصيان والخروج عليهم ، حتى وأن ادعوا أنهم مسلمون ، بل حتى لو رأينا نحن أيضا أنهم مسلمون . فلا ولاية لفاسق كما يقول القرطبى . بل إن القرآن الكريم سن تشريعات القصاص لتطبق على المسلمين . وأمرنا بمقاتلة الفئة الباغية رغم أنها مسلمة ووصف القرآن الكريم المؤمنين بالفسق إن هم تخلوا عن الجهاد (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِى اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) [التوبة-24].
تكفير الحاكم من عدمه، تستحق مناقشة مستقلة ، ولكننا لا نحتاج للخوض فى هذا الجدل مع حكام يرتكبون كل هذه الجرائم فى حق شعوبهم وأوطانهم ودينهم حتى نعلن عدم مشروعيتهم، حتى إن كنا نعتقد أنهم لم يخرجوا من الملة أو حتى إن كان البعض يعتقد بضرورة التزام التقية فى هذا الموضوع.
*****
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ)
وجاء أمر الله سبحانه وتعالى للنبى بالجهر بالدعوة (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر-94] . وأيضا (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء214-215] وصعد الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الصفا فقال يا معشر قريش: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد، فقاطعه أبو لهب ساخرا: تبا لك !! ألهذا جمعتنا وانفض الاجتماع ولكن ليس هذا هو المهم الآن، المهم لقد تم إصدار البيان رقم 1، بدأ الإعلان ، وبدأت عملية المفاصلة ، وكذلك هناك درس آخر، وهو البدء بالدائرة الأقرب، فهذا مجتمع قبلى، وكل إنسان تبدأ قوته ومنعته بأهله وعشيرته وقبيلته، وهذه من ضرورات الحركة السياسية التى تتعامل مع الواقع أما الخطاب القرآنى فقد كان منذ اللحظة الأولى يؤكد أنها رسالة للعالمين ، ولكن الوصول للعالمين سيتم عبر آليات متراكبة، كعلبة التروس، تبدأ بالأسرة الصغيرة وترتفع للعشيرة ثم القبيلة، ثم الوطن ثم الأوطان المحيطة إلى نهاية العالم ، كل ترس ينقل الحركة إلى ترس أكبر حتى تدور آلة الدعوة.
وهذا قانون اجتماعى لا يقتصر على المجتمع القبلى، فأيضا الحركات الكبرى التى غيرت مجرى التاريخ بدأت فى نقطة ارتكاز معينة قبل أن تنزاح فى باقى الوطن وهى الأماكن التى تسمى عادة معاقل الثورة والتغيير.
فلا يمكن لحركة ناشئة صغيرة العدد أن تخاطب الأمة مباشرة مرة واحدة، فلابد من الارتكاز والتركز فى نقطة النشأة لوهلة من الوقت، وهذه النقطة قد تكون قبيلة، أو منطقة جغرافية نشأ فيها القادة ، أو نقابة أخرى أو طائفة معينة، فمن الطبيعى أن تكون البداية فى المكان الذى تعرف فيه الناس تاريخ زعماء الحركة فهم الأقدر على تقييم مدى جديتهم ومصداقيتهم، ولابد أن يقبلهم مجتمعهم الصغير حتى يقتنع بهم الأبعد.. وقد لعب أبو لهب على هذا الوتر خلال هذه المرحلة فكان يتتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بدأ يتصل بالقبائل فى مواسم الحج لعرض رسالته ، فكان يتتبعه ويقول " لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب " فترد القبائل على محمد صلى الله عليه وسلم: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك ، أى إذا كانت عشيرتك لم تقبلك ولم تقتنع بك فكيف لنا أن نصدقك ؟! ورغم هذا سيُثبت مجرى الأحداث صواب توجه النبى إلى عشيرته، فرغم الصد الأول إلا أنه ظل يجتذب منهم الفرد تلو الآخر، بل حتى من لم يدخل منهم الإسلام وهم الأغلبية قام بعضهم بدور القوقعة الصدفية التى حملت سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وحملت دعوته ل (بنو هاشم).
وجاء فى الحديث الصحيح) :ما بعث الله نبيا إلا فى منعة من قومه).
وهنا ندرك الدور الخبيث والخطير لأبى لهب وهو عم الرسول، فى محاولته المستميتة لمنعه من تشكيل قاعدة بين عشيرته وقومه، لذلك استحق أن يخلده القرآن الكريم كأحد أبرز مجرمى التاريخ، وعندما انحاز بنو عبد المطلب وبنو هاشم مع المؤمنين فى شعب أبى طالب، لم ينشق عنهم سوى هذا ال (أبو لهب). ولكن لابد أن نذكر أن هذا الإعلان الأول للدعوة أدى إلى إسلام عدد من الناس فورا كمصعب بن عمير وصهيب الرومى وعبد الله بن جحش وفى مقابل هذا الصد الأول بدأ الدين - بسبب هذا الإعلان والتخفف من شروط السرية دون إلغائها تماما - بدأ الدين الجديد ينتشر رويدا رويدا، وبدا الأمر أنه جد وما هو بالهزل وبدأ القلق الحقيقى يعتمل فى صدور قادة مكة. وبدأت مرحلة طويلة من المفاوضات لعلها لم تتوقف حتى حصار المسلمين فى شعب أبى طالب. وهناك روايات معروفة ترد فى كتب السيرة عن مجرى هذه المفاوضات بين أهل الحكم فى مكة وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، ويمر كثيرون عليها بخفة ، أو يتصورون أنها مجرد موقف أو حوار تم مرة أو مرتين فى حين أن هذا التفاوض أو الحوار الذى كان يتم عبر عمه أبى طالب أو مع الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، يجسد ويشرح كنة وجوهر القضية والصراع ويضع لنا أهم القوانين التى يجب أن ترشد حركتنا العقائدية والسياسية فى عصرنا الراهن (فى كل العصور) لأن هذه القوانين - كقوانين الطبيعة - لا تتبدل.
والحقيقة أننا نطلق عليه تفاوض، بينما كان تفاوضا من جانب واحد، جانب حكام مكة، ونسميه حوارا وهو فى الحقيقة أقرب إلى الصراع والمناجزة الفكرية، صراع حول المشروعية . وكان طواغيت مكة يتفاوضون سياسيا مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بينما يبطشون بالمؤمنين فى ذات الوقت، وكان الرسول يلتقى بهم أو يرد عليهم تأدبا واحتراما لمقام عمه أبى طالب وهو كبير فى قومه ، وأيضا كداعية لله لم ييأس أبدا من جذب بعض كبراء مكة على الأقل لدعوته. ولكنه من جهته لم يكن يساوم أو يفاوض على شئ، وكانت العروض والاقتراحات وخطط الطريق والمبادرات تأتى من جهة أئمة الكفر، بنفس طريقة تفاوض الغرب الآن مع الحركات المجاهدة فى فلسطين ولبنان والعراق : دعوة للاستسلام ، والاعتراف بإسرائيل وقرارات الشرعية الدولية ، فهو فى الحقيقة ليس تفاوضا ولكن محاولة لإملاء الشروط، واستخدام وسائل سياسية لتحقيق أهداف تحتاج أصلا لقتال حربى حتى تتحقق.
ومن أسباب عدم اهتمام الكثير بهذه الزاوية المفصلية أنهم كما ذكرت يتصورون أنه كان مجرد لقاء واحد أو لقاءين . وهذا غير صحيح بل كان خليطا مستمرا طوال المرحلة المكية، وقد رصدت فى كتب السيرة العديد من المواقف المختلفة على مدار المرحلة المكية ، ولم يكن هذا الصراع السياسى حول المشروعية يدور عبر أبى طالب وحده، بل كان خطابا مستمرا سياسيا يوميا لحكام مكة : إن محمدا يصيب آلهتنا ويسبها ويسفه عقولنا (أحلامنا)، ويكفر آباءنا . يقولونه فى كل المنتديات ، فى اجتماعاتهم الخاصة ، أو فى خطابهم لجماهير مكة، ولقبائل العرب، أو خلال حواراتهم الساخنة واصطداماتهم مع المؤمنين ، ومع محمد صلى الله عليه وسلم نفسه بصورة مباشرة.
ولنرصد عددا من المواقف ذات المضمون الواحد ولكنها جرت فى مناسبات مختلفة
1. زعماء قريش يلتقون بأبى طالب ويقولون له إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلى بيننا وبينه . فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه (البلاذرى)
2. ثم ذهبوا إلى أبى طالب فى لقاء آخر وقالوا له: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك، فلم تنهه عنا، أو ننازله وإياك فى ذلك حتى يهلك أحد الفريقين . فبعث أبو طالب إلى ابن أخيه وقال له: يا ابن أخى قومك قد جاءونى فقالوا لى كذا وكذا، فابق علىّ وعلى نفسك، ولا تحملنى من الأمر ما لا أطيق (ابن هشام - الطبرى) وظن الرسول صلى الله عليه وسلم أن عمه قد ضعف عن نصرته، وأنه ربما خذله وسلمه لأعدائه فقال " ياعم، والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه ".
3. أثناء طواف الرسول (صلى الله عليه وسلم) حول الكعبة كان المشركون يتجمعون حوله وأخذوا بمجامع ردائه ويقولون له : أنت الذى تقول كذا وكذا فى عيب آلهتنا وديننا ، وكان يجيبهم بصراحة لا التواء فيها " نعم أنا الذى أقول ذلك " ويفهم من الرواية أن ذلك الموقف كان يتكرر.
4. ثم رأوا فى مواقف أخرى أن يتحدثوا إليه بشكل مباشر فاجتمعوا عند الكعبة وأرسلوا إلى الرسول كى يأتيهم للحوار مع أشراف القوم من ممثلى مختلف القبائل ، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعا ولعله توقع خيرا ، فقالوا له : يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين ، وشتمت الآلهة ، وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة (أى أضررت بالوحدة الوطنية والاستقرار والسلام الاجتماعى بلغة حكام عصرنا !!). ثم عرضوا عليه المال أو الشرف بمعنى الحكم، أو حتى الملك، أو العلاج الطبى إن كان مريضا. فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بى ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثنى إليكم رسولا وأنزل علىّ كتابا وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم ، فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة وإن تردوه علىّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بينى وبينكم. وهنا نلحظ أن دعوته للحكم أو الملك كانت مقابل التخلى عن : سب الآلهة ، وإلا فإن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس متعففا عن الحكم ، بل هو سعى إليه وحققه ولكن على أساس مضمون الرسالة ، فليس الحكم هدفا فى حد ذاته إلا للوصوليين وأصحاب الأطماع الرخيصة.
5. وروى أن أبا جهل بن هشام عندما كان يلتقى فى الطريق بمحمد صلى الله عليه وسلم كان يقول له : والله - لاحظ أنهم جميعا يقسمون بالله!! - يا محمد لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذى تعبد . وفى مرة أخرى قال له : يا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا. وفى مناسبة ثالثة قال له ترفضنا من ذكرك، ولا تلزمنا ولا من آلهتنا فى شئ فندعك وربك . فرد الرسول صلى الله عليه وسلم: قولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، فنفر أبو جهل وصحبه من كلامه.
6. ومن وقائع رفضه صلى الله عليه وسلم مطالب الكفار وعروضهم نزلت فيه سورة " قل يأيها الكافرون " فقد قال الخازن فى تفسيره نزلت فى رهط من قريش منهم الحرث بن قيس السهمى والعاص بن وائل السهمى والوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن عبد المطلب بن أسد وأمية بن خلف. قالوا يا محمد هلم اتبع ديننا ونتبع دينك ونشركك فى ديننا كله، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذى جئت به خيرا كنا قد شاركناك فيه، وأخذنا حظنا منه، وإن كان الذى بأيدينا خيرا كنت قد شاركتنا فى أمرنا وأخذت بحظك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : معاذ الله أن أشرك به غيره قالوا فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك. وردا على هذا الحوار أنزل الله: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه أولئك الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثم قرأها عليهم حتى فرغ من السورة وهى شديدة اللهجة فى المفاصلة بين الإيمان والكفر: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى دِينِ). ولاحظ أن الكفر بالنسبة لهم "سب" فهم يعتبرون أنهم مؤمنون بالله بالإضافة لعدد آخر من الآلهة الفرعية!! وهذا ينقلنا إلى الواقعة الطريفة التالية وهى متصلة بموضوعنا: مسألة السب والقذف فى حق الآلهة باعتبارها المسألة المحورية.
7. جاءت قريش إلى عمران بن الحصين وكان شيخا تعظمه ، فقالوا كلم لنا هذا الرجل فإنه يذكر آلهتنا ويسبهم فجاءه وقال: ما هذا الذى بلغنا أنك تسب آلهتنا وتذكرهم . فقال صلى الله عليه وسلم كم تعبد من إله ؟ قال: ستة فى الأرض وواحد فى السماء!! قال صلى الله عليه وسلم فأيهم تعبد لرغبتك ورهبتك ، قال الذى فى السماء. قال صلى الله عليه وسلم فيستجيب لك وحده وتشركهم معه، يا حصين أسلم تسلم قال الحصين: فإن لى قوم وعشيرة فماذا أقول ؟ قال صلى الله عليه وسلم: قل اللهم استهديك لأرشد أمرى وزدنى علما ينفعني. فقالها الحصين ولم يقم حتى أسلم.
8. تقدم المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن ينزع من القرآن المجيد كل ما يغيظهم من ذم الأوثان وسب آبائهم والوعيد الشديد، فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم وأجابهم بما أمره سبحانه وتعالى (قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [يونس-15]. [نبذة من السيرة النبوية- أبو النصر مبشر الطرازى الحسينى - القاهرة 1968- على حساب المؤلف- ص120].
9. روى عقيل بن أبى طالب: جاءت قريش إلى أبى طالب فقالوا: إن ابن أخيك يؤذينا فى نادينا وفى مسجدنا فانهه عن إيذائنا فقال: يا عقيل ائتنى بمحمد فذهبت فأتيته به فقال يا ابن أخى: إن بنى عمك يزعمون أنك تؤذيهم فى ناديهم وفى مسجدهم فانته عن ذلك فقال فحلق رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم بصره فى السماء فقال: أترون هذه الشمس، قالوا: نعم، قال ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تستشعلوا لى منها شعلة . فقال أبو طالب: ما كذب ابن أخى فارجعوا. مسند أبى يعلى وصححه الحافظ ابن حجر قال : هذا إسناد صحيح. [ دراسات فى السيرة- د. سالم أحمد سلامة- د. طالب حماد أبو شعر- الشهيد الدكتور/نذار ريان- الجامعة الإسلامية- غزة- فلسطين- الطبعة الثانية- 2004-ص73].
10. وفى لقاء آخر أو رواية أخرى أن قيادات قريش اجتمعت مع أبى طالب فى بيته، واشتكوا من استمرار سب الآلهة وشتمها فاستدعى محمدا، فقال أبو طالب: يا ابن أخى إن قومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم، وتقول وتقول وتفعل وتفعل فقال: يا عم إنما أريدهم على كلمة واحدة ، تدين لهم بها العرب وتؤدى إليهم بها العجم الجزية: قالوا: وما هى؟ قال لا إله إلا الله. فقاموا وهم ينفضون ثيابهم وهم يقولون أجعل الآلهة إلها واحدا ؟ إن هذا لشئ عجاب (مسند أحمد). وجاء فى القرآن الكريم (وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [ص4-5].
11. اجتمعت قريش يوما فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذى فرق جماعتنا، وشتت أمرنا ، وعاب ديننا فلنكلمنه ، ولينظر ماذا يرد عليه ؟ فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة ، فقالوا: أنت يا أبا الوليد ، فأتاه عتبة فقال : يا محمد، أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول قال: فأنت كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك ، فرقت جماعتنا ، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا فى العرب، حتى لقد طار فيهم : أن فى قريش ساحرا، وأن فى قريش كاهنا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل : إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أغنى قريشا رجلا، وإن كان إنما بك الباه فاختر أى نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فرغت؟ قال نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم (حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ....) إلى أن بلغ (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) [فصلت1-13] . فقال عتبة : حسبك أما عندك غير هذ ا؟ قال: لا. (ابن كثير) وفى رواية أخرى أضيف إلى كلام عتبة : وإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسا ما بقيت) [ منير الغضبان- مرجع سابق- ص112،113].
12. كما ذكرنا كان أبو لهب يتتبعه أثناء عرض دعوته على قبائل العرب القادمة إلى مكة فى مواسم الحج والعمرة والتجارة ويقول لكل قبيلة (إن هذا يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم . إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه) .
13. وقد وثق القرآن الكريم هذه المناجزة (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ) [المائدة-104] ، وهذا ما عاناه المشركون بسبب الآباء وتكفيرهم وتسفيه عقولهم. والعجيب أن بعض كتاب السيرة ينفون عن رسول الله هذه التهم الموجهة له وأنها كانت مجرد ادعاءات من المشركين ، وأن غاية ما كان يقوله هو نفى صفة الألوهية عن الأصنام . فماذا يقولون عن هذه الآية التى تصف الآباء بأنهم لا عقل لهم (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ) [البقرة-170].
14. روى الطبرى وابن كثير وغيرهما أن نفرا من المشركين فيهم الوليد بن المغيرة والعاصى بن دائل جاؤوا فعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه من المال حتى يكون أغناهم وأن يزوجوه أجمل أبكارهم على أن يترك شتم آلهتهم وتسفيه عاداتهم.
15. فى رواية إسلام أبى بكر الصديق، وهو ما يؤكد تسرب أنباء الدعوة فى الفترة السرية، أن أحد المشركين التقى أبا بكر وقال له صديقك محمد يسب آلهتنا، فجاء أبو بكر للرسول وسأله: هل حقا أنت تسب آلهة القوم، فرد عليه، أنا رسول الله وقد جاءنى الوحى وأدعوك إلى الإسلام، فقبل أبو بكر الصديق لتوه.
نكتفى بهذا العدد من الأمثلة التى توضح أن هذا الحديث عن سب الآلهة وتسفيه العقول وتكفير الآباء وتفريق الجماعة كان عنوانا لحملة سياسية شاملة مستمرة ، ولم يحدث فى أى مرة من المرات أن رد الرسول صلى الله عليه وسلم بالنفى، أو حاول تخفيف هذه الأوصاف، ولم يقل : أبدا كلنا على دين إبراهيم ! لم ينف عن نفسه تهمة عيب الآلهة والاستهزاء بها وبمن يعبدها ولا تهمة تكفير الآباء أو التفريق بين الجماعة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [التوبة-23]. بل كان يرد بدعوتهم إلى (لا إله إلا الله وأنه رسول الله) وهذا هو "السب" بعينه من وجهة نظرهم لأنه ينكر عشرات أو مئات الآلهة ويكفر بها جميعا. وكان يرد أحيانا بتلاوة القرآن الذى يؤكد ما يقولون وإذا لم يكن تعبير "السب" غير دقيق لأنه قد يتضمن استخدام ألفاظ فاحشة، ولكننا بالتأكيد أمام (مدح وذم وعيب فى الآلهة وتكفير) . ولم ينقل أى كتاب أو رواية للسيرة، أن محمدا صلى الله عليه وسلم اهتم بنفى تهمة السب عن نفسه، كما لم ترد آية حول ذلك. لأن ذلك ليس بيت القصيد. وسيظل رفضك للوثنية هو " سب من وجهة نظر الوثنيين فدعهم يقولون ما يقولون (كان الرسول يقول لهم أن هذه الأصنام لغوا باطل) ( قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا) [ الأنعام-71] . وتمر الأيام والسنون والأحقاب، ويظل الظالمون والمستكبرون يوجهون نفس الاتهامات لمعارضيهم (السب والقذف) وحُبس المعارضون فى العهد الملكى بتهمة العيب فى الذات الملكية: العقاد وأحمد حسين وإبراهيم شكرى وغيرهم، ويحبس المعارضون فى عهد مبارك بتهمة السب والقذف أو إهانة رئيس الجمهورية. عندما لا يجد المجرمون شيئا يطعنون به فى شرف المعارضين فلا وسيلة لحربهم إلا بتهمة إساءة الأدب، بينما أباح الله سبحانه وتعالى السخرية من أعداء الله كرد على سخريتهم كما قال على لسان نوح عليه السلام (إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) [هود-38] .
العروض والمساومات (التفاوض) استهدفت الحفاظ على المشروعية:
إن الجهر بالدعوة يعنى - فى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الإعلان عن الهدف النهائى للدعوة وعدم الاكتفاء بالدعوة النظرية (كالاكتفاء بمقولة الإسلام هو الحل) ولكن يمتد إلى مهاجمة الأوضاع القائمة والسائدة والدعوة إلى نفيها والقضاء عليها ، وهو ما يعنى الاصطدام بالحكام وبالنظام القائم والدعوة الصريحة إلى تغييره، وكان على النظام أن يدافع عن نفسه؟ وعن مصالحه ومكانته الأدبية والمادية.
والأمر المثير هنا هو، حجم الاضطراب والانزعاج الذى أصاب قريشا من دعوة لا تضم فى ذلك الوقت إلا بضع عشرات : عند الجهر كان العدد قرابة الخمسين ، ولكن المسألة ليست بالعدد، فمضمون الدعوة قوى ومزلزل وله منطقه الأخاذ (من وجهة نظر المشركين) كما أنه يطرح أخطر شئ وهو ضرب المشروعية السائدة فى الصميم فقبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، قام زعماء قريش بطرد شخص واحد من مكة هو زيد بن عمرو لأنه كان مجاهرا بالحنيفية (التوحيد على أساس دين إبراهيم) ويستهزئ بالأصنام فى حرم الكعبة. أما فى زمن البعثة، فها هم الأفراد يتوالون تباعا للدخول فى الدين الجديد،حتى العبيد، وهم وفقا لقانون العبودية ملك لسادتهم ، يدخلون أيضا فى هذا الدين . إذن هو تمرد إذا تُرك لن يبقى ولن يذر. ومن الذى جرأهم على ذلك ؟ محمد صلى الله عليه وسلم والعشرات من صحبه لأنهم أسقطوا هيبة الوثنية، والأساس الدستورى للنظام القائم وطعنوا فى شرعيته. وعندما لاحظت قريش أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم متصلب فى موقفه وأنه لم يعبأ بالتهديدات الأولية التى وصلته ولم تثنه عمليات تعذيب أنصاره، ولا الإيذاء الذى يتعرض له هو وأصحابه، بما فى ذلك التهديد بالقتل، ولا يزال مصرا على الاستمرار فى الجهر بالدعوة. رأى قادة الشرك أن يغيروا الخطة (أو التكتيك) فطرحوا خطة التجاور بين الدين القديم والدين الجديد. وإيجاد صيغة للتعايش ليس بمعنى التعددية الحرة، ولكن بمعنى تمييع القضية، وليس بمعنى الاعتراف النزيه بهذه "الفرقة" أو "الحزب الجديد" كما تضطر لذلك بعض الأنظمة السياسية، ولكن بمعنى إفراغ الدعوة الجديدة من مضمونها الأساسى (التوحيد).
تقدم حكام مكة بهذا المشروع المغرى للرسول صلى الله عليه وسلم: أن نعبد إلهك يوما وآلهتنا يوما (أو سنة وسنة) وهى خطة تعكس دهاء هؤلاء القوم وأنهم حقا يستحق مكرهم أن يصفه الله (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ).
فهى خطة فى منتهى الذكاء وقبولها من أى فريق معارض فى أى مجمتع محتمل بنسبة 90% إذا كان هذا الدين يسعى لمجرد إثبات الذات أو ممارسة العمل السياسى فى العلن، أو أخذ نصيب ما من السلطة والنفوذ فى النظام الحاكم أو ما يسمى فى عصرنا الحديث: الحفاظ على التنظيم وكأنه هدف فى حد ذاته.
والعرب بلغاء، فهذه العبارة لا تعنى المعنى الحرفى الكاريكاتيرى الذى قد يتبادر إلى الذهن، بمعنى أن يصلى المشركون صلاة المسلمين يوم الاثنين مثلا، ويصلى المسلمون معهم يوم الثلاثاء حول الأصنام فالمقصود ليس ذلك بطبيعة الحال، ولكن كما سيتضح فى حوارات وعروض أخرى هو عملية التجاور والتعايش بين مشروعيتين بصورة تفقد المشروعية الجديدة مصداقيتها. كان حول الكعبة 360 صنما أو إله فيضاف إليهم إله محمد، ويصبح العدد 361 ويمكن لمحمد وأصحابه أن يصلوا فى ركن معين بالكعبة دون التعرض للآلهة الأخرى بالعيب والسب وخلافه ، أو بلغة العصر تغيير الخطاب الدينى ، كما تدعوا الولايات المتحدة وحكام مصر والعرب اليوم فهذا يعنى أن ينتقى محمد صلى الله عليه وسلم عندما يصلى صلاة جهرية أو عندما يتلو القرآن آيات عامة ويغفل الآيات التى تتعرض للآلهة!
وقد وثق القرآن الكريم فى أكثر من موضع ، هذه الخطة الماكرة، وحذر الرسول الأكرم منها ، وهو فى الحقيقة يحذرنا نحن أساسا من بعده، لأن الرسول كان معصوما من الوقوع فى ذلك، كما أن ردوده الفورية كانت رافضة تماما كما رأينا (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم8-9].
(وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِى عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذَاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) [الاسراء73-75].
كان المقصود بالعرض أن يعبد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ربهم ، دون التعرض للآخرين (من الآلهة) وبهذا يمكن أن يكون مقبولا من الشرعية (وتوافق عليه لجنة الأحزاب بلغة النظام المصرى)، ويتعايش الجميع فى وئام، وتظل السلطة الحاكمة كما هى بعقيدتها التى لا يطعن فيها أحد، لا يمسها سوء ولا يقترب منها خطر!
جاء وفد من زعماء قريش إلى أبى طالب ليلتمسوا إليه أن يكف ابن أخيه ، فاستدعاه وقال له : لا يا ابن أخي، هؤلاء عمومتك وأشراف قومك وقد أرادوا أن ينصفوك فقال رسول الله قولوا أسمع ، قالوا: تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك قال أبو طالب : قد أنصفك القوم فاقبل منهم ، فقال رسول الله: أرأيتم إن أعطيكم هذه ، هل أنتم معطىّ كلمة إن انتم تكلمتم بها ملكتم العرب، ودانت لكم بها العجم؟ فقال أبو جهل: إن هذه كلمة مربحة، نعم وأبيك، لنقولنها وعشر أمثالها!! فقال الرسول: قولوا (لا إله إلا الله)!! فاشمأزوا ونفروا منها وغضبوا وقاموا وهم يقولون (اصبروا على آلهتكم إن هذا لشئ يراد)[ طبقات ابن سعد البلاذرى - ابن الايثرى وجاء فى القرآن الكريم (وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) [ص-6]
كما أوضح القرآن الكريم أن الكفر بالطاغوت هو أساس الإيمان وأن المسألة ليست مجرد شعائر (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا) [النساء-60]
ويفيد مقولة أبو جهل التى قالها للرسول صلى الله عليه وسلم لأنها تتصل بفكرة التجاور حيث قال له: ترفضنا من ذكرك ولا تلزمنا ولا من آلهتنا فى شئ فندعك وربك، فرد عليه الرسول : قولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وعندما أسلم خالد بن سعيد بن العاص دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى: أدعوا إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله (وتخلع ما أنت عليه). {الرياض النضرة فى مناقب العشرة – أبو جعفر أحمد الشهير بالمحب الطبرى – تحقيق وتعليق د. حمزة النشرتى – الشيخ عبد الحفيظ فرغلى – د. عبد الحميد مصطفى – المكتبة القيمة – القاهرة}
لاحظ (وتخلع ما أنت عليه) فهذا هو الوجه الآخر للعملة : فلا إله إلا الله ، تبدأ بالنفى أولا (لا) ، تبدأ بالكفر بالطاغوت (ما يعبد من دون الله) بحيث لا يبقى حصرا إلا الله.
إذن دخول الإسلام لا يتم بدون وجهى العملة معا منذ اللحظة الأولى ولا يستقيم الإيمان بدون لعن الأوثان (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ) [الحج-30] والرجس هو القذارة العقلية والنفسية.
خطة التجاور بين مشروعيتين، التى طرحها حكام مكة ، لم تكن تعنى الاعتراف بالآخر أو بحق التعددية فى الفكر، ولكنها قامت على أساس تعديل الخطاب الدينى (بلغة العصر) فيعبد محمد وأصحابه الله الذى يؤمنون به دون التعرض لمعتقدات وآلهة الآخرين، وهى المعتقدات السائدة، وبذلك يتم تحصينها والحفاظ على مشروعيتها المنفردة ، لأن الموافقة على خططهم كانت تعنى "تشذيب" العقيدة الإسلامية بما لا يتعارض مع مشروعية الشرك السائدة ، بل بحيث تدخل هى نفسها "العقيدة الإسلامية" ضمن هذه المنظومة!! وهذا يؤكد حقيقة بالغة الخطر: أن عقيدة التوحيد لا تنشأ فى الفراغ، ولا يمكن أن تنمو بمعزل عن المجتمع ، وأنها بطبيعتها لابد أن تشتبك مع العقيدة السائدة ، اشتباكا فكريا وسياسيا حتى تتحول - أى عقيدة التوحيد - من خلال اقتناع الناس وليس باستخدام وسائل العنف أو الإكراه، تتحول إلى عقيدة سائدة ولذلك طلب محمد صلى الله عليه وسلم من حكام مكة، أن يخلوا بينه وبين الناس، بمعنى فتح الطريق للمباراة السلمية بين العقيدتين، وأن يتركوا الحكم للناس فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ولكن الحكم الطاغوتى فى مكة - وفى غيرها وفى كل زمان ومكان - لا يقبل بهذه القاعدة لإدارة الصراع. لأن حرية تداول الفكر وحرية الدعوة ليست لصالحهم ، فهم فى قرارة أنفسهم يعرفون أنهم على باطل، وأنهم يقاتلون من أجل مصالحهم الدنيوية ، ولذلك قالوا لماذا لم ينزل القرآن على رجل من القريتين عظيم؟! أى إذا كان ولابد أن يكون هناك نبى فلماذا لا يكون من بين عظماء مكة والطائف ، وكأن النبوة منصب رئاسى أو ملكى!
وهذه سنة من السنن فى المجتمعات، وإلا لماذا يرفض حكام مصر، المناظرة على شاشات التليفزيون مع الحركة الإسلامية، ولماذا يحاربون مكاتب الفضائيات حتى تمنع هذا الشخص أو ذاك من الظهور عليها ولماذا يغلقون الصحف المعارضة؟! ولماذا يمنعون المعارضة الإسلامية من تأسيس إذاعات أو محطات تلفزيونية خاصة ولماذا لا يسمحون لها بأحزاب شرعية ؟ ولماذا لا يسمحون بانتخابات حرة ؟! لأنهم يدركون فى قرارة أنفسهم أنهم على باطل وأن حججهم ضعيفة أمام حجج معارضيهم الإسلاميين.
والمناظرة أو المبادرة السلمية تعنى الاشتباك لا التجاور والتوازى لأنه بضدها تتميز الأشياء ، ولأن العقيدة السليمة لا تقوم إلا على أنقاض العقائد الفاسدة ولكن بالحوار السلمى، كتبت من قبل فى دراسة سابقة أن الطغاة إذا قبلوا بالحوار ما كانوا طغاة، وإذا قبلوا بالرأى العام وحطمه ماكانوا ظالمين، ولكنهم يدركون جيداً أن استمرارهم فى مواقعهم وثيق الارتباط بأسر الرأى العام والتشويش عليه حتى لا يسمع كلام الحق . (لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت-6].
أى عندما يتلى القرآن شوشوا على قارئيه. وكيف لا وقد كانوا يرسلون أبرز الناس منهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإذا استمع إلى القرآن عاد يقول لهم: إن كلام محمد فيه حلاوة وإن عليه لطلاوة!! فيقولون له: لقد سحرك محمد! ومن ذلك إن قادة الشرك اشترطوا على أبى بكر الصديق ألا يقرأ القرآن بصوت عال فى المسجد الذى بناه داخل بيته، حيث كانت الناس تتجمع وتسمع القرآن من وراء الأسوار كذلك فقد كان قيام أحد الصحابة بقراءة القرآن فى حرم الكعبة يعنى تعرضه الأكيد للضرب المبرح من قبل المشركين لإسكات صوته.
نعم إذا كان الطغاة والظالمون يسمحون بحرية التعبير والاحتكام للرأى العام لأصبحت الأرض جنة ، وانتهت فيها الصراعات ، ولكن قصة البشرية هى الصراع بين الحق والباطل، وفى دراسة (الإسلام والحكم) شرحت هذا المعنى، وقلت أن الإسلام مع الانتخابات الحرة (على عكس ما يدعون)، لأنه لا يجوز فرض الإسلام أو برامج الإسلاميين على الناس بالقوة.
والحق لا يوجد فى الفراغ فلابد من الاشتباك مع الباطل حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) [الأنبياء-18].
وبعد فتح مكة رفض الرسول صلى الله عليه وسلم التجاور للحظة واحدة مع صنم اللات ، فعندما أسلم أهل ثقيف طلبوا تأجيل هدم اللات بعض الوقت لاعتبارات نفسية ومراعاة لشعور الدهماء!
أرسلت ثقيف وفدا للرسول صلى الله عليه وسلم لإعلان دخولها الإسلام ، وبعد موافقتهم بين يديه على دخول الإسلام، سألوه أن يدع لهم الطاغية ، وهى اللات، لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله ذلك عليهم فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم حتى سألوا شهراً واحداً بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمى . وقالوا أنهم يقصدون بتركها لبعض الوقت عدم التعرض لمشاعر سفهائهم ونسائهم وذراريهم ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلوا الإسلام ، فأبى رسول الله إلا أن يبعث من يهدمها فوافقوا.
أى أن المفاصلة فى مشروعية الأوثان كانت باللسان فى موقع المعارضة ، ثم كانت بالقول والفعل من موقع السلطة ، فلا يُقبل أن يعلن المرء إسلامه ويحتفظ بالوثن أو الصنم لحظة واحدة.
*****
أزمة الحركات الإسلامية المعاصرة أنها لا تطرح قضية مشروعية النظم الحاكمة
هنا بيت القصيد فى الإجابة على سؤال: لماذا فشلت الحركات العربية الإسلامية فى الوصول إلى الحكم (عدا السودان) فهذه الحركات لم تنتهج نهج رسول الله فى هذه القضية المحورية المتصلة بعملية التغيير وهذا أيضا قانون اجتماعى من يتبعه - وإن لم يكن على دين الإسلام - ينجح فى إحداث التغيير وفقا للنظرية التى يتبناها. وتعنى قانون الجهر بالهدف النهائى للحركة، والطعن فى مشروعية النظم القائمة.
يخطئ كثير من الإسلاميين حين يركزون على بطش السلطات الاستبدادية باعتبار ذلك هو السبب الرئيسى لعدم النجاح فى إحداث التغيير. والحقيقة فإن القمع الاستبدادى يؤخر عملية التغيير ولكن لا يحول دونها، وأن اصطدام حركات التغيير بالسلطات وتعرضها للبطش مجرد مرحلة من الابتلاء وإذا أدارت حركة التغيير الصراع على نحو رشيد - كما سنرى فى دروس السيرة النبوية - فان هذه الابتلاءات نفسها تتحول إلى أحد عناصر النصر، ذلك أن صمود المجاهدين إزاءها ، يعجم عودهم، ويثبت إيمانهم، ويؤكد مصداقيتهم أمام الجماهير ، ويكسبهم تعاطفها وإعجابها، فيساعد على انفتاح مسامها وعيونها وعقولها لتسمع أفكار هؤلاء المثابرين الصابرين المحتسبين، فتقتنع بهم، وتلتحق بهم تدريجيا، كما أن البطش الغشوم للمستكبرين يجعل الناس تذورعنهم ، وتعاديهم، وتكرههم ، لأن الناس تدرك بطبيعة الحال أن الظلم والحق لا يجتمعان. وعندما نقول أن البطش يؤخر التغيير، لا يعنى أنه يؤخره لعشرات السنين أو القرون، فنحن نتحدث عن الصراع فى جيل واحد. وأن عدم تحقيق النصر خلال جيل واحد (من عقد إلى عقدين) يعنى أن خطة الحركة نفسها فيها خطأ جوهرى فى داخلها إما من زاوية الفكر أو من زاوية أساليب الحركة، والسيرة النبوية تؤكد هذه القاعدة حيث انتصرت خلال 20 عاما، وهى قد بدأت من الصفر، بالمعنى الحرفى لكلمة صفر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.