قالوا السياسة مهلكة بشكل عام غلاف الكتاب انطلق فى طريق النجاح كالشهاب..لم يكن من المنافقين ولا أهل الثقة، لكن شعره الشعبى بشر بالثورة قبل أن توجد، و زكاه أنه عُرِف ببعده عن الأحزاب، وهو من ناحيته و بتلقائية وإخلاص، كرس شعره للثورة، فما من إنجاز أو نصر أو موقف نبض به قلب الثورة إلا و أعطاه المعادل الشعرى فى أجمل صوره، ثم سرعان ما يترجم إلى غناء تردده الإذاعة و التليفزيون..تلك هى الصورة التى رسمها "نجيب محفوظ" برؤيته الثاقبة فى رواية "قشتمر" لعلاقة "صلاح جاهين"أو (طاهر عبيد بطل الرواية) بالثورة و رجالها، تلك الصورة التى التقطها "محفوظ" – وأكد لبهاء أنه استوحاها من شخصية والده - النافذة - لا تختلف كثيرا عن الواقع لأن "جاهين" أحب "جمال عبد الناصر" قبل أن يلتقيا، بل كانت أشعاره التى كتبها- و عمره لا يتعدى السادسة عشرة – دعوة صريحة للثورة و منها: يا فتية النيل هبوا من ثباتكمو هيا ننادى بصوت واحد أحد إما جلاء و إما لا قيام لنا إما فخار وإما ظلمة اللحد لسنا نهاب الردى إن جاء يطلبنا إنا فداء لمصر درة الصمد صاحب تلك الكلمات انتظر الثورة قبل قدومها ؛لذلك التقت أحلام المدينة الفاضلة التى تمناها مع أحلام النهضة لدى "عبد الناصر"، خاصة أن "جاهين" بطبيعته "ثورى الهوى" مند أن كان طفلا يرفض أن يعيش فى جلباب أبيه رغم عشقه له، لكن حين جاءت الثورة لم يقترب من صناعها، بل وقف ضدها عندما تخلت عن الديمقراطية فى أزمة 1954م، و ظل على موقفه من الثورة حتى عام 1956م عندما قام "عبد الناصر"بتأميم قناة السويس، و يومها فقط قرر "جاهين" أن تكون أشعاره وقودا للجنود فى ساحات المعارك فكتب قصيدة "موال عشان القنال"التى قال فيها: يجعل كلامى فانوس وسط الفرح قايد يجعل كلامى على السامعين بفوايد يجعل كلامى لا ناقص ولا زايد إحنا فى وقت البنا ماحناش وقت كلام يجعل كلامى حجارة و مونة و حدايد فين الكلام اللى زى الورد والحنة أرميه سلام و أنقله مواويل تتغنى على شباب انقتل فى حب أوطاننا شال السلاح فى يمينه و قال يا بلدى ندرن عليا لاخليكى ولا الجنة وإن عشت يا مصر لامشيكى برجليا وعندما أعلنت انجلترا و فرنسا و إسرائيل (العدوان الثلاثى) الحرب على مصر ذهب إلى الغذاعة مع سيد مكاوى وكتب قصيدته : حنحارب هنحارب كل الناس هتحارب مش خايفين م الجايين بالملايين حنحارب حنحارب حتى النصر تحيا مصر تحيا مصر وفى الحال لحنها سيد مكاوى وغناها كل من كان موجودا داخل مبنى الإذاعة فى هذه اللحظة لتذاع فى نفس اليوم بعد خطاب جمال عبد الناصر من الجامع الأزهر ، كانت هذه المعركة بمثابة الشرارة التى حركت وجدان "جاهين"، وجعلته يستغنى نهائيا عن القلم "الجاف" و يستبدله بقلم "رصاص" ليكتب قصيدته الشهيرة "والله زمان يا سلاحى"لتصبح النشيد الوطنى لمصر حتى معاهدة كامب ديفيد (التى وقعتها مصر مع إسرائيل عام 1979 وقيل أن من بين بنودها السرية تغيير هذا النشيد) وكان يقول فيها: والله زمان يا سلاحى اشتقت لك فى كفاحى انطق وقول أنا صاحى يا حرب والله زمان والله زمان ع الجنود زاحفة بترعد رعود حالفة تروح لم تعود إلا بنصر الزمان هموا وضموا الصفوف شيلوا الحياة ع الكفوف يا ما العدو راح يشوف منكم فى نار الميدان مصر الحرة مين يحميها .. نحميها بسلاحنا أرض الثورة مين يفديها .. نفديها بأروحنا الشعب بيزحف زى النور الشعب جبال الشعب بحور وبركان غضبان بركان بيفور زلزال بيشق لهم فى قبور و بعد انتصار شعب القناة على العدوان الثلاثى، لم يتوقف حلم "جاهين" عند هذا الحد، بل طالب بأن نشارك فى تحرير أرض الجزائر فى قصيدة "الانتصار" حين قال: فيه لسه ركن ف قلبى عاوز يبتسم أرض الجزاير لسه تحت الاحتلال أنا قلت مش ممكن بلادى تنقسم أرض الجزاير جزء من أرض القنال واستمرت رحلة نضال "جاهين" بالشعر الذى يقف بجوار الجنود فى ميادين القتال و زاد حبه لجمال عبد الناصر الذى رأى فيه صورة الزعيم الذى كان ينتظره منذ أن قرأ "عودة الروح" ل "توفيق الحكيم" فى مكتبة جده و هو طفل فى حى شبرا - والتى آلت إلى والده بعد وفاة جده- و لكن فى الوقت نفسه لم ينس رفاق الدرب من المثقفين، و عندما صدرت قرارات باعتقالهم ذهب لأسرهم و ساندهم ماديا و معنويا، رغم أن ذلك تسبب له فى حرج شديد، حتى إنه تم التنبيه عليه بعدم تكرار تلك الزيارات و إلا سيتم وضع اسمه ضمن القائمة المطلوب اعتقالها باعتباره من أعداء الثورة ! لكنه رفض، وبالفعل تم وضع اسمه فى قائمة الاعتقالات أكثر من مرة، و لكن تدخل "عبدالناصر" وشطب اسمه بنفسه - مثلما أكدت لنا أخته بهيجة - ليستمر "جاهين"فى مساندته لأسر المعتقلين و ليظل أيضا سندا لحلم النهضة الذى كان يكبر يوما بعد يوم، و تشاء الأقدار أن العام الذى دخل فيه التليفزيون مصر وتم الاتفاق على إذاعة احتفالات الثورة بعيدها أن يكون "جاهين" فى رحلة فى إيطاليا، و يشتد حبه للعودة إلى مصر فيكتب رائعته "بالأحضان" لتكون بمثابة نقلة فى الأغنية الوطنية التى كانت قبله مجرد أناشيد، لكن "جاهين" كان يرى أن الأغنية الوطنية يجب أن تكون عاطفية حتى تنجح، و يستمر نجاحها لسنوات طويلة ؛ لذلك بعد نجاح "بالأحضان" أصبحت كلماته واحدة من مظاهر الاحتفال بعيد الثورة. كان الثلاثى (عبد الحليم حافظ و كمال الطويل و جاهين) يلتقون فى بداية شهر يونيو من كل عام لتحضير أغنية جديدة، و ظل الثلاثى على العهد حتى مرض والد "جاهين"بالسرطان، ولم يتحمل "صلاح"الخبر و اختفى تماما و حاولت أسرته الوصول إليه دون جدوى لمدة عشرة أيام، بعدها أقسمت "بهيجة"أخته أن "حليم هو اللى مخبيه"، فذهبت إلى بيته و قالت له "عاوزين صلاح ضرورى، أبوه تعبان و محتاج يشوفه و أنت مخبيه عندك"، فقال حليم: " و الله هو ما عندى و لا حتى شفته.. ادخلى دورى عليه، و عموما أنا هجيبه لحد عندك"، و بالفعل أحضره فى اليوم التالى بعد أن نشر إعلانا فى الأهرام يقول "ارجع يا صلاح.. أهلك بيدوروا عليك"..عاد جاهين لبيته على الفور و عرفوا أنه كان فى الإسكندرية لأنه كان لا يتحمل أن يرى أحداً من أقاربه مريضا، فما بالك بوالده. تتابعت الأغانى الوطنية من "على رأس بستان الاشتراكية" و"المسئولية" مرورا ب "صورة " و "ثوار" و صولا إلى "يا أهلا بالمعارك" التى كتبها قبيل النكسة، تلك الفترة التى وصفها "جاهين" بقوله: منذ عام 1967م وأنا أعانى من حالة اكتئاب حادة، و الاكتئاب عندى ليس فترة، لكنه حالة كاملة تنتابنى و تهاجمنى فى و قت معين، و حتى أكون دقيقا فى حديثى، فلقد عانيت ما عانته مصر كلها من فترة اكتئاب من 1967م وحتى نصر 1973م، فالنكسة عندما حلت بمصر حلت بكل شىء..نكسة فى الحياة، فى أعماق البشر، فى الشعر، فى الغناء، فى كل شىء. أنا كمصرى تأثرت بهذه النكسة، و كفنان تأثرت أكثر و أكثر؛ لأن قبل النكسة كان هناك شىء نغنى له:الثورة، الأمل، المستقبل..أشياء كثيرة؛لذا كنت أكتب و أكتب و أغنى، والناس كلها تغنى معى، وكل الشعراء يغنون فيجدون أصداء غنائهم عند الناس، ولكن هذا كله توقف عام 1967م.