ما برح أريج ثورة الياسمين يفيض علينا شذى يهدي التواقين للحرية والعدل في عموم الوطن العربي. بداية، تذكرنا تجربة تونس الراهنة بأمر طالما أكدنا عليه في كتابات سابقة، أنه على الرغم من الأهمية المحورية للمتسلط الأكبر على رأس شلة احتكار السلطة والثروة، إلا أن الحكم التسلطي يبقى بُنى قانونية معيبة ومؤسسات سياسية وتنفيذية مختلة يظل لها أثرها المدمر على الحرية والعدل حتى بعد التخلص من المتسلط الأكبر إن لم يجري تصحيحها. وعليه، فإن خطايا الحكم التسلطي لا تنقضي بالتخلص من رأسه. ومن ثم، فإن الانتصار الناجز على الحكم التسلطي يتطلب تفكيك بنى التسلط وتدمير مؤسساته الداعمة لأغراضه الخبيثة. رأينا في تونس أن الطاغية قد نجح في صوغ بنية قانونية، خاصة في الدستور، تحصر الترشح لمنصب رئيس الدولة في حزبه، بعد أن أفسد الحياة السياسية حتى دمّر أي معارضة جادة. كما أنشأ بالإضافة لجهاز الأمن الباطش في وزارة الداخلية، جهازا خاصا لأمنه وأمن نظامه الاستبدادي ووموّله تمويلا سخيا من أموال الشعب الذي سلط هذا الجهاز البطشي لقهره، وسلّحه تسليحا لا يقل عن الجيش، والتجربة مكررة بالكامل في أكثر من بلد عربي خاصة واحد له قصب السبق في توطيد أركان الحكم التسلطي. ورأينا كيف سلّط الطاغية هذا الجهاز الباطش على الشعب التونسي في أواخر أيامه ليُعمل التخريب ويؤجج الشغب المدمر، بحيث يتبجح رأس النظام بثورة مخربة حاول زورا أن يضفي عليها فزاعة التيار الإسلامي كي يستدر تعاطف ومؤازرة أسياده في الغرب وأقرانه في المنطقة، بينما كان هو وأعوانه وراءها. وكيف أُلقي القبض على رأس هذا الجهاز وهو يفر إلى بلد حكم تسلطي مجاور بسيارة باهظة التكلفة من صنف ما تستعمل قوات الاحتلال الأمريكي في العراق، وبأموال طائلة. ومع ذلك استمرت قوات هذا الحرس الخاص المتمركزة في القصر الرئاسي تنازع الجيش باستخدام الأسلحة الثقيلة لمنعه من بسط الأمن على البلد. وليس مستغربا أن رأس الحكم التسلطي في هذا البلد المجاور خاطب الشعب التونسي لائما عليه الثورة ومادحا في الطاغية الهارب، فطيور السوء على أشكالها تقع. ومن هنا كان احتجاج الشعب التونسي على حصر إجراءات الإصلاح في نطاق أفراد ومؤسسات الحكم البائد، صنائع الطاغية الفار. وللشعب كل الحق، فإن هذا الأسلوب قمين بجعل الإصلاح الحق بطيئا ومريرا، إن لم يكن مستحيلا. إن الإصلاح الحق الذي يفي ثورة الياسمين حق دماء شهدائها يتطلب صوغ دستور جديد يقنن لمبادئ الحرية والديمقراطية والعدل عبر جمعية تأسيسية منتخبة انتخابا حرا ونزيها من جميع فئات الشعب تطرح مشروع الدستور الذي تضعه للاستفتاء الشعبي العام، ومحاسبة أهل النظام البائد، وعقاب المجرمين منهم، أمام محاكم مدنية نزيهة، قبل تشكيل الأجهزة التشريعية والتنفيذية للحكم الجديد بالانتخاب الحر عبر آليات تضمن نزاهته. وإن تطلب هذا السبيل بعض الوقت، فمنافعه تستحق التأجيل، على حين قد ينطوى التعجيل بإجراءات إصلاحية في الشكل تجري أساسا في إطار البنى القانونية والسياسية لنظام حكم الطاغية المخلوع، وباستعمال رجالاته، ولو ببعض التجميل الشكلي، بتكريس بعض من آثام الحكم البائد، وإهدار غايات الثورة.