علي الساحة العامة في مصر اليوم شكوي مريرة من الجميع من غياب الأخلاق، في كل المجالس يشكو الناس من فساد السلوكيات وتراجع القيم وقشور التدين وغياب المضمون الحقيقي للالتزام علي جميع المستويات. ويتفاوت تعريف القيم التي يقصدها الناس، فالبعض يحلل القيم الفردية من صدق في القول وأمانة في التعامل ورجولة ومروءة في الموقف ودقة في الأداء وتعفف عن الفواحش وصيانة للحرمات، والبعض الآخر يتحدث عن التزام الفرد بالقيم المدنية من احترام للملكية العامة وإتقان في العمل الوظيفي وطهارة وشفافية في التعامل مع مقومات القوة والسلطة والنفوذ وتقبل للخلاف وتسامح مع الأفكار المتنوعة وشرف في الخصومة وتقديم للمصلحة العامة علي الحسابات الشخصية الضيقة. وقد لفت نظري أن مجال السياسة بعيد عن ذلك، فالناس تتحدث عن الأخلاق الفردية أو الأخلاق في تجلياتها في المجال الاجتماعي العام، ولا تدرك أن الخطورة هي في غياب المسعي الأخلاقي للحكم والدولة في مجتمع يتمتع بسلطة مركزية عبر تاريخه تؤثر في الفرد والمجتمع وتصوغ الثقافة العامة علي صورتها في أحيان كثيرة. وقد اختلف الناس منذ قديم بين من قالوا: «لو صلح الناس لرزقهم الله الحاكم الصالح ومنهم من قال: «الحاكم الصالح دوره إصلاح الشعب»، والأمر يمكن النظر له من زوايا متنوعة، لكن الشاهد في النهاية أن الأخلاق لا تنفصل عن سياسة الأمم ولا عن إدارة شئون الحكم. والدافع لما أقول هو أولاً الغياب الملحوظ للرئيس عن ملفات أخلاقية واجتماعية مهمة في نظام يدور علي محور رئاسي في الدستور والممارسة، وفرعوني في الوعي والثقافة. من الجيد أن يسافر كل عدة أسابيع (!) لمناقشة المستجدات علي الساحة العربية مع قيادات بعينها في أوروبا الغربية تحديدا، وأين مصالح الناس في حياتها اليومية من ماء نظيف وحياة كريمة وخدمات صحية أساسية، بالانخراط في متابعة الواقع والحفاظ علي سلامة المواطن و الوطن. لم أفهم صمت النظام السياسي التام عن تصريحات الأنبا بيشوي «أن المسلمين في مصر ضيوف علي أرضها»، ويهمني أن أعرف هل لديه سجلات موثقة في سراديب الكنيسة عن أنساب المصريين ومَنْ مِنْ الغالبية المسلمة لا ينحدر بالتأكيد من أصول قبطية انتقل الناس منها إلي عقيدة الإسلام؟، وهو كلام خطير نعلم تماماً أنه تتم به تعبئة بعض الشباب في الكنيسة منذ عقود ونسمعه في النقاشات مع الشباب في الندوات والحوارات وتمتلئ به مواقع الإنترنت التي تروج لفتنة طائفية في مصر، لكن أن يخرج علينا بهذه التصريحات في هذا التوقيت فهو أمر يثير التساؤل عن الهدف وإن كان لا يثير التعجب كثيرا بالنظر للشخص ووضعه داخل النخبة الدينية في الكنيسة التي تعد نفسها لخلافة البابا شنودة، الذي أكرر ما كتبته من قبل عن أنني لا أفهم حكمته في السكوت عن كوارث تهدد الوطن بل تهدد الأمن المباشر لما يسميه البعض منذ عقود «الأمة القبطية» - بالمعني السياسي وليس بالمعني الديني المعروف لشعب الكنيسة-. تتوقع لو أنك تنظر للمشهد أن تبادر الكنيسة بالتعليق أو التصويب، وصولا للاعتذار أو لدفع الأنبا بيشوي للقول بأن النقل لم يكن دقيقاً أو أن التأويل لم يكن منصفا (أي حاجة!)، لكن يواجهك الصمت تارة أو الرهان علي أن التجاهل هو أحيانا أسلم السبل للتمرير والتأجيل لمواجهة الأزمة. علي مستوي القيادة السياسية الرسمية لا صوت ولا نفس ولا تعقيب، مجرد شائعات عن عتاب غير رسمي من شخصيات قيادية، وهو ما يدفع قوي التطرف للتحرك في هذا الفراغ، لأن ما قيل لن يسكت عنه أحد وإن تفاوتت ردود الأفعال أو تم تأجيلها ودفعها تحت السطح - إلي حين. ليس هذا مقال في تحليل هذه الواقعة ، فالأمر يحتاج دراسة مفصلة للمقولة ومن قالها والإطار والتحولات التي شهدتها الكنيسة في العقود الماضية ومشهد الاحتجاج القبطي بتنوعاته وأطيافه المشروع منها والخارج عن الشرعية والمشروعية، لكنه مجرد تأمل في مسألة بالأساس تتعلق بأخلاقية الصمت وأخلاقية الكلام وأخلاقية المواقف، والمسئولية الأخلاقية للدولة والمسئولية السياسية للكنيسة بكل ما تعنيه كلمة المسئولية من معان. كذلك لا أفهم تجاهل القيادة السياسية لملفات العنف الاجتماعي وصولاً لكارثة أطفال الشوارع. هل هذه «ملفات نسائية» تم تفويض السيدة الفاضلة في إدارتها بالنيابة عن القيادة السياسية؟ أم أن السياسيين مشغولون بتسوية ملفات أهم (من نوع الملفات التي لا تتم تسويتها أبدا!). بل أي منطق أخلاقي يحكم هذا التجاهل والصمت للقيادة السياسية عما يجري في وزارة التعليم من عشوائية في القرار تمس الحياة اليومية للملايين من المصريين منذ عقود، ومثال بسيط هو إلغاء السنة السادسة ثم عودتها دون محاسبة لأحد، وصولا لمعركة الكتاب الخارجي وارتباك مشهد التعليم المدرسي برمته. أي أخلاق تحكم قرار واختيار القيادات بأنواعها لأولوية ملفاتها في بلدنا المحروسة؟ هذا سؤال الأخلاق الأخطر الذي يحيرني... طوال الوقت.