في الماضي، كان الحديث عن الفساد إثماً من عمل الشيطان يجب اجتنابه، أو حتي مجرد التفكير فيه.. ذلك أن الأوضاع السياسية لم تكن تحتمل طرح هذا السلوك اللا أخلاقي للمناقشة، لأن مناقشته والتعرف علي أسبابه ودوافعه، كفيلة بالحد منه والسيطرة والقضاء عليه. ترعرع الفساد في ظل الدكتاتورية السياسية التي عاشتها مصر، سواء قبل قيام الثورة أو حتي بعد السنوات الأولي لقيامها، وإن كان قد ارتبط في الفترة الأولي بمفهوم الاستعمار والملكية، وارتباطهما الوثيق بالعديد من قضايا الفساد، التي دفع الشعب المصري ثمناً باهظاً لها. ولاشك أن التقدم الإنساني، وطرح مفاهيم جديدة للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، واتساع رقعة مشاركة المواطنين في كل ما تقوم به الدولة، وتزايد دور القطاع الخاص، أفرز نوعيات جديدة من الفساد، سواء الذي يرتبط بالسلطة أو المال، في كل دول العالم حتي المتقدمة منها. الفساد ظاهرة إنسانية، كانت مصر من أولي الدول العربية - وعلي مستوي المنطقة - سباقة في البحث عن أسبابها ودراستها، في إطار واقع جديد تتجه فيه كل القيم إلي المادية، وذلك من خلال تطبيق واسع لمفهوم سيادة القانون وتحقيق العدالة. وفي الأسبوع الماضي، كشف الدكتور مفيد شهاب وزير الشئون القانونية النقاب عن تشكيل لجنة عليا لمكافحة الفساد، ومراجعة كافة التشريعات المتعلقة به، وذلك تنفيذاً لتكليفات الرئيس مبارك. وقد أسعدتني كثيرا الدراسة الجادة حول الأطر الثقافية الحاكمة لسلوك المصريين واختياراتهم، فيما يتعلق بقيم النزاهة والشفافية والفساد، والتي أجرتها وزارة الدولة للتنمية الإدارية، وقام بها الأستاذ الدكتور أحمد عبدالله زايد عميد كلية الآداب جامعة القاهرة، ومعه كوكبة من الأساتذة: د. خالد عبدالفتاح ود. منال زكريا ود. عادل شعبان ود. غادة موسي. وأهداها لي الأستاذ الدكتور أحمد درويش وزير الدولة للتنمية الإدارية. تعرضت الدراسة للتغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بمصر، منذ بداية الستينات. وكما قال الدكتور أحمد درويش في مقدمة البحث، إنه الأول من نوعه سواء في مصر أو الشرق الأوسط من حيث تناول الموضوع، ومن حيث المنهجية ومن حيث الحجم. فقد اعتمد علي عينة احتمالية مختارة بدقة، لتكون ممثلة للجمهور العام علي مستوي الجمهورية، كما أنها ربطت الأبعاد الاجتماعية بموضوعات مكافحة الفساد، وتحقيق الإدارة الرشيدة.
تعرضت الدراسة الجادة إلي الملامح العامة لرؤية العالم عند المصريين. أشارت عينة البحث إلي أن 9.08٪ يرون أن أخلاق الناس تغيرت هذه الأيام، بينما يري3.31٪ أن هذا التغير لم يكن بالشكل الكبير. ويري 5.08٪ من العينة أن الأزمة الاقتصادية تمثل أحد الأسباب القوية لتراجع أخلاق المصريين، ويمثل ضعف الوازع الديني السبب الثاني في تغير أخلاق المصريين بنسبة 3.62٪. أشارت الدراسة إلي أن 4.36٪ من المصريين يخافون من المستقبل، ويرجع ذلك إلي ارتفاع الأسعار والغلاء الذي يعاني منه كثير من أفراد المجتمع، وبنسبة 4.37٪. تشير الدراسة إلي أن 1.34٪ يرون أن رجال الأعمال ذوي السلطة هم أكثر الناس فسادا في المجتمع، علي حين يري 6.33٪ ان التجار هم الأكثر فسادا، ويري 4.31٪ أن أعضاء المجالس المحلية هم الأكثر فسادا. وأشارت إلي أن رجال الدين جاءوا في أقل الفئات فسادا، وبنسبة 1.6٪. أشارت الدراسة إلي أن المصالح الحكومية ذات الطابع الخدمي، جاءت رؤية المصريين لها أنها أكثر المؤسسات فسادا بنسبة 4.84٪. يليها قطاعا الصحة والتعليم ثم الإعلام ثم الداخلية ثم المحليات. كما رأي 6.07٪ من أفراد العينة إن انتشار الرشوة هي أكثر مظاهر الفساد، علي حين جاءت المحسوبية في المرحلة الثانية. ويري 3.92٪ من العينة أن الفوضي الأخلاقية من أكثر المظاهر التي تجسد الفساد، يليها استغلال النفوذ، ويليها التزاوج بين المال والسلطة. وكشفت الدراسة أن هناك إحساسا مرتفعا بالظلم داخل المجتمع. وفيما يتعلق برؤية المصريين لعدل الدولة، أكد 8.04٪ أن الدولة غير عادلة، في مقابل 1.74٪ أكدوا أن الدولة عادلة لحد ما. ويرجع سبب ذلك إلي انحياز الدولة لفئات ما، وأنها تقدم خدمات غير جيدة للفقراء، وأنها لاتطبق القانون بطريقة متساوية.
وانتهت الدراسة القيمة إلي عدة نتائج، يمكن رصد أهمها في النقاط التالية: غياب »الذات الجمعية« ويتضح ذلك من خلال ارتفاع نسبة من يؤكدون المظاهر السلبية في الآخرين، كالكذب وعدم الأمانة والتناقض وانخفاض الثقة في الدوائر الأبعد من الأصدقاء والأقارب. أي أن هناك نوعا من التباعد في الحياة الاجتماعية، حيث يميل الناس للتقوقع حول ذواتهم وذوات أسرهم وأصدقائهم، ويبتعدون عن كل ما هو عام. ويقصد بالذات الجمعية هنا الروح العامة أو الإرادة العامة أو الإجماع العام. أشارت الدراسة إلي أن هناك اهتماما متزايدا بالمصلحة الفردية علي حساب المصلحة العامة، وأن ثمة ادراكا عاما بأن الزمن هو زمن الفرد، وليس زمن المجموع، وأن الظروف الصعبة التي يعيشها الفرد تجعله أقرب إلي الاهتمام بقضاياه الشخصية، ولعل المثل الشعبي الذي يقول »كل واحد بيقول يا نفسي« هو الأكثر تعبيرا عن تلك الحالة. وقال الباحث إنه عندما يشيع في ثقافة الناس مثل هذا القول، يكون الطريق إلي الخلاص فرديا، وليس جماعيا، وقد يكون الفساد أحد طرق الخلاص، أي أن يبحث كل فرد عن مصالحه الخاصة بطريقته الخاصة. هناك انعدام في الثقة المتبادلة بين الناس، وبين الناس والحكومة، وهو ما يؤكد أن الذات الجمعية في مأزق حقيقي. وأحد أهم أسبابها التناقض بين الأقوال والأفعال. هناك حالة من الغموض وعدم الإفصاح، فقد رأي 67٪ من عينة البحث أن الصدق يقل في الحياة، وأن الكذب يزداد. هناك مبالغة شديدة في التأكيد علي شيوع المظاهر السلبية في حياة الناس، فلقد أكدت عينة الدراسة بشكل مبالغ فيه، علي أن حياة الناس قد تغيرت إلي الأسوأ 88٪، وأن العلاقات بين الناس أصبحت سيئة 36٪، وأن الفساد قد عم بين الناس 38٪ وأن الناس تميل إلي الكذب، وأنه زاد خلال الأعوام السابقة 67٪، وأن الناس تتباعد عن بعضها 97٪، وأن الناس لم تعد تتعامل وفقا لقواعد الأمانة 97٪، وأن الأمانة قلت بين الناس 86٪، وأن الظلم قد زاد 27٪، ونحن أميل إلي أن نفهم هذه التصورات السلبية المبالغ فيها في أغلب الأحيان، علي أنها مؤشر مهم علي حالة الهلع الأخلاقي، التي تعاني منها الحياة الاجتماعية في مصر، ذلك أنها تعكس حالة من نقد الآخرين والشعور بالامتعاض تجاههم، وعدم ادراك أي ايجابية في الحكم عليهم. البحث أكد نتيجة مهمة ترتبط بآفاق المستقبل، حيث لوحظ أن ثمة ميلا أكبر لتأكيد الجوانب السلبية، في الحياة لدي فئتين من العينة: الفئة الأولي: هي فئة صغار السن ممن تتراوح أعمارهم بين 81 سنة إلي 43 سنة. الفئة الثانية: هي فئة المتعلمين. وتؤكد هاتان الفئتان أكثر من غيرهما أنه لا عدل ولا ثقة ولا اتساق في الحياة، كما تؤكدان أكثر من غيرهما علي أن الحياة تتغير إلي الأسوأ، وأن الفروق بين الناس تزداد حدة، وأكاد أنظر إلي هذه النتيجة علي أنها أهم نتائج البحث جميعا، لأنها تلقي بظلالها علي المستقبل من زاويتين: أن صغار السن هم جيل المستقبل، واتجاههم هذا يعكس قدرا من فقدان الأمل واليأس. أن المتعلمين هم الأكثر من غيرهم علي تحمل أعباء التنمية، وعلي الوعي بقضاياها. وهم لا يستطيعون فعل ذلك إلا إذا شحذت نفوسهم بطاقة كبري من الثقة والإقدام والمبادأة.
الدراسة كشفت عن جوانب إيجابية مهمة يمكن أن تكون الأساس الذي يجعلنا نأمل في مستقبل أفضل. من أهم هذه النتائج الميل الواضح إلي القيم الفاضلة، فالنقد المرير لكل صور الظلم والفساد والكذب وعدم الصدق، يكشف عن أن ثمة ميلا كامنا لدي الناس لحب الخير والفضائل العامة، أو قل لديها توق إلي هذه الفضائل. الميل نحو تأكيد الرابطة الوطنية وليس الرابطة الدينية، فمعظم أفراد العينة 8.29٪، يميلون إلي تأكيد الرابطة الوطنية، ويرفضون التمييز علي أساس الرابطة الدينية. وجود ميل واضح لدي عينة الدراسة نحو رفض السلوكيات، التي يمكن أن تنم عن التناقض وعدم الاتساق، حيث كشفت النتائج أن نسبة 4.89٪ يرفضون أن يتحدث شخص عن القيم الدينية ولا يعمل بهذه القيم، ورفض نسبة 8.59٪ لإظهار مشاعر غير الموجودة بالفعل، وبنسبة 2.49٪ عدم التزام الأب بما يربي عليه أبناءه، مما يعكس رغبة المصريين في ضرورة الاتساق في التعاملات اليومية. أن نسبة يعتد بها لا تميل في سلوكها إلي قيم الفساد وعدم النزاهة. فقد عبرت نسبة كبيرة من العينة عن رفض الواسطة والمحسوبية، وعبرت نسبة كبيرة 85٪ عن أنهم لم يلجأوا إلي هذا السلوك في حياتهم، كما عبرت نسبة 8.52٪ عن أنهم لا يفضلون فكرة توريث أبنائهم للمهن، التي يعملون بها أو زرعهم فيها. وثمة استعداد لدي عدد كبير »يقدر بنسبة 75٪« للمشاركة في النشاط العام إذا ما توفرت الشروط، ولدي نسبة أكبر 2.28٪ للمشاركة في مواجهة، أو حل المشكلات غير الشخصية، وتنظر نسبة لا بأس بها 6.63٪ نظرة تفاؤل إلي المستقبل. تفضل نسبة كبيرة من أفراد العينة 67٪ العمل الجماعي أوالعمل في فريق، ونسبة أكبر 87٪ تبدي استعدادا للمشاركة في الخدمة العامة، ورغم أن المشاركة الفعلية في الانتخابات قليلة، إلا أن نسبة كبيرة 08٪ تؤكد أهمية، بل ضرورة المشاركة في الانتخابات. وأخيرا، فإنه بالرغم من تناقص الثقة، إلا أن نصف أفراد العينة، يميلون إلي تأكيد الثقة في التعامل مع الآخرين ومع الحكومة.