كلما ركبت الطائرة وشاهدت ابتسامة المضيفة، وكلما جلست في كافيتريا شيك وتلقيت نفس الابتسامة الحلوة تذكرت صديقاً لي كان حلم حياته أن يرتبط بفتاة رقيقة ناعمة ممن يراهن في الطائرات أو في المكاتب الأمامية بالفنادق أو حتي ممن تعملن بالاستعلامات في الشركات والمؤسسات الكبري. كانت ابتساماتهن وتلبيتهن لطلب العميل بكل ذوق ومودة تخطف لب صديقي وتطيح بصوابه وتجعله راغباً في مفاتحة الفتاة في موضوع الزواج قبل أن يسبقه غيره ويخطفها منه !. وكثيراً ما حلم بأيام جميلة مع واحدة من هذه الكائنات اللطيفة الشفافة التي، لا شك، تنثر الفرح والسرور في بيت أي رجل يحصل عليها ويفوز بها! وقد ساهم في نمو أحلامه أيضاً في هذا الاتجاه «اليونيفورم» اللطيف الذي ترتديه الفتيات وكم هو نظيف وأنيق خاصة لمن تعقد «إيشارب» حول الرقبة أو تضع حزاماً حول الخصر يوضح رهافة خصرها مع التحدث بعربية مخلوطة بكلمات إنجليزية كثيرة! كان صديقي جاداً في الأمر ولم يكن يتحدث علي سبيل الدعابة أو المرح. المشكلة أنني وقد اشتغلت منذ كنت طالباً في الثانوي في أماكن كهذه كنت أدرك أن الصورة التي تبهر صديقي هذه هي صورة زائفة تماماً وأن دنيا الوظائف التي تتضمن تقديم الخدمة للزبائن تمور بالعجائب التي لو عرفها من يتلقي الخدمة لأصيب بالفزع. لا يدرك الزبون بالطبع أن الجرسونات من الأولاد والمضيفات من البنات لا يكفون عن السخرية من الزبائن وإمطارهم بكل مضحك من الأوصاف مع كل اختفاء خلف كواليس المكان، ولا يدرك الزبون أنهم وأنهن يسخرن من منظره ومن ملابسه ويتندرن حول من تجلس معه بشكلها وهيئتها..و يا ويله يا سواد ليله من ترك بقشيشاً ضئيلاً أو مضي بدون دفع بقشيش..هذا يغامر بجعل أمه وأبيه عرضة للسباب المقذع من الفتيات الجميلات والفتية المهذبين! وبعيداً عن سوء السلوك الذي يميز بعض من يشتغلون ويشتغلن بهذه الوظائف فإن هناك جانباً كبيراً منهم أولاد ناس ومهذبون حقاً، ورغم ذلك فإن ما يراه الزبون منهم ومنهن هو تمثيل في ثمثيل. لا يعرف راكب الطائرة أن المضيفة التي تبتسم له في حنان ربما كانت في غاية التعاسة في هذا اليوم نتيجة مشاكل عائلية أو ظروف حياتية ضاغطة أو بفعل الدورة الشهرية ! ولا يتصور من كان مثل صديقي الحالم أن موظفة الفندق ربما وصلت لاستلام نوبتها بعد صراع مرير داخل توك توك وميكروباص حملاها من كفر غطاطي إلي مصر الجديدة أو من الخصوص إلي الهرم، وأنها تنفق من جهازها العصبي لكي تبدو أمام العميل في الصورة التي يتوقعها هو ورب العمل. ولا أميل إلي استخدام الوصف الشائع عن الأدب الزائف في مواجهة الزبون بأنه «أدب القرود» مثلما يؤدي القرد عجين الفلاحة ونوم العازب ويقف أمام صاحبه في طاعة وهو في الحقيقة يود افتراسه. والعجيب أن أدب القرود هذا تقوم المعاهد بعمل كورسات متخصصة فيه وتدرّسه تحت مسميات متعددة من أجل تأهيل الشباب لسوق العمل. ومن المفارقات أن الشاب الذي يرتدي البابيون والبدلة السوداء التي تشبه الردنجوت في العمل يعود إلي البيت فيرتدي الجلباب المخطط أو البيجامة «الترينج» والشبشب الزنوبة وبهما يتجول في الحي ويجلس علي القهوة.. كما أن فتاة الفندق الكاعب الحسناء كثيراً ما تقوم بارتداء الحجاب قبل اقترابها من شارعهم حتي تبدو متوافقة مع المحيط الذي تنتمي إليه!. وشخصياً مع كل تعامل مع مضيفة طيران أو موظفة فندق أجد نفسي متمنياً أن أقول لها: أرجوك..كوني علي طبيعتك ولا تتجشمي عناء الابتسام لي..أنا لست سعيداً بابتسامتك لأنني أعلم أنها غير حقيقية..يؤلمني أن أراك تعانين حتي أكون راضياً عن أدائك..من أنا حتي أرضي أو أغضب؟..يكفي أن تقومي بعملك بحياد وأدب ولا داعي للابتسام علي الإطلاق..أنا لست باشا ولا صاحب معالي..أنا رجل شقيان مثلك ولكني لا أبتسم لمن لا يستحق الابتسام..و ربما عليّ أن أحمد الله علي هذه النعمة الكبيرة جداً.