ظلت طوال شهر رمضان تحكي عن أصوات الشيوخ الذين يؤمّون الصلاة في مسجد أبو بكر الصديق في آخر مصر الجديدة. كانت تذهب مع صديقاتها لأداء صلاة التراويح بانتظام، ثم تطور الأمر وأصبحت تذهب للتراويح ثم لصلاة التهجد التي تبدأ في الواحدة بعد منتصف الليل، ولأنني أعرف حالتها الصحية بدأت أشعر بالقلق، وأشرت مجرد إشارة إلي أن الإفراط في الوقوف قد يؤذيها صحياً، لأنها مريضة ضغط منخفض إلي درجة الإغماء المفاجئ، ولأنها أيضا لا يمر عليها شهر واحد دون إصابتها بمرض ما. أكدت لي أنها لا تقف طوال الصلاة، فهي تؤدي الفرض واقفة وتجلس في النوافل. وأكدت أيضاً أن صوت الإمام الجميل يشرح صدرها إنشراحاً تشتاق إليه، وقالت إنها تحاول ألا تذهب فتجد نفسها في موعد الصلاة وكأن النداهة ندهتها فترتدي ملابسها وتتصل بصديقتها لتمر عليها وتصحبها إلي المسجد وتقول لنفسها غداً لن أذهب وهكذا. في الأيام الأخيرة من رمضان طلبت أجازة اعتيادية من وظيفتها الحكومية لتتمكن من النوم قليلاً في الصباح. هي أختي الصغيرة وهي عاطفية لذلك لم أندهش من انفعالها واعتبرته مجرد مبالغة عادية اعتدت عليها. حتي ذهبت معها، اخترت ليلة من الليالي الزوجية في نهاية الشهر حتي أتجنب الزحام. وهناك اكتشفت أن أختي لم تبالغ، المشهد كله غير عادي حتي بالنسبة لي أنا التي تعودت علي الصلاة في مساجد القاهرة المختلفة. ليست أصوات الأئمة فقط هي المختلفة لكن المكان نفسه مختلف. فالمسجد يطل علي حديقة واسعة يصلها صوت الصلاة عبر ميكروفونات. الحديقة مفروشة بالحصير الأخضر ومخصصة لصلاة السيدات، النظافة سائدة والجميع يحافظن عليها. بعض السيدات يقمن بإشعال أعواد البخور أثناء الصلاة فتصبح رائحة الجو مزيجاً من رائحة العشب الأخضر والبخور. كما أن السماء المفتوحة والاتساع يعطي شعوراً نادراً بالراحة. لابد لمن يدخل هذا المكان أن ينسي بعد فترة قصيرة كل ما هو خارجه. بعض السيدات يتطوعن بحفظ النظام وهو غير متوفر في أماكن صلاة السيدات في بعض المساجد التي أديت فيها الصلاة من قبل. الشعور بالاطمئنان والراحة والتركيز جعلني أكرر التجربة في اليوم التالي وكان مقرراً أن يتم فيه ختم القرآن، وبالتالي كان الزحام شديداً، والأعداد تضاعفت عدة مرات، ورغم ذلك لم يفقد المكان هدوءه ولا نظامه ولا نظافته. صلاة حقيقية لا يفوقها إلا الصلاة في مسجد الرسول والمسجد الحرام. أداء الأئمة شديد الرقي، ودعاء ختم القرآن منضبط لا تطويل فيه ولا تقصير ولا مبالغة ولا افتعال. خشوع نادر يمحو كل التشويش المقصود والتلقائي، خشوع كنت في أمس الحاجة إليه فاعتبرته أجمل عيدية حصلت عليها.