.. كان أباً، وصديقاً وشجرة!! .. في مثل هذه الأيام في رمضان عام 2005 مات. .. مات من كان قدره أن يعيش من أجل وحيده. .. مات في ليلة نحسبها ليلة القدر، رحل ووجهه مبتسماً كالبدر. .. أبي لم يكن فقط محامياً متميزاً.. ولا نائباً وسياسياً محنكاً، بل كان فيضاناً من الحب والأبوة. .. تعلمت من أبي معني الإصغاء الحنون. .. تعلمت منه الصبر والجلد، وتعلمت منه أن الألم لا يشعر به إلا صاحبه وأقرب الناس له. .. ظل أبي يتألم في صمت، وهو يري قسوة الجلادين الذين أداروا محاكمة لم ير مثلها في نصف قرن قضاها مدافعاً عن الحق، وفارساً في ساحات المحاكم ومشرعاً تحت قبة البرلمان! .. لم يحتمل قلبه كل هذا الزيف والتلفيق والتلويث والتجريح الذي طال كل شيء دون عقل أو ضمير! .. لم يحتمل قلبه كل هذا الألم، والظلم المكتوم، والشعور بالعجز في مواجهة هذه الآلة الضخمة من الظلم والظلمة. .. مات أبي وهو يشد علي يدي، ويسأل الله لي النجاة. .. كان أبي يتمتع بحلاوة اللسان، وصوت متهدج في قراءة القرآن. .. آخر خطاب ألقاه كان في مؤتمر «نبروه» قبل أيام من الانتخابات الرئاسية.. كان يصارع مرضه، وهو يساند وحيده في أيامه الأخيرة ويدعو ربه «اللهم لا تحرمني وأنا أدعوك، ولا تخيب رجائي وأنا أرجوك، اللهم مددت إليك يدي، وفيما عندك عظمت رغبتي، فارحم ضعف قوتي، واحفظ ابني، يا كبير فوق كل كبير، من كل جبار عنيد، فأنت المجير له من كل شر مستطير». .. أستعيد الآن كلماته الأخيرة، المفعمة بجيشان الروح، ومشاعر الأبوة الحنونة في وقت وزمن غابت فيه الأبوة وبات الحنان عمله صعبة. .. لم أتخيل يوماً أني سأشعر بكل هذا اليتم رغم أعوامي ال 46 بكل هذا الحنين والشوق. .. في سنوات السجن كانت الزيارة الوحيدة، التي لم يستطع سجاني أن يحرمني منها، أو يضيق علي خلالها أو يتلصص عليها هي تلك الزيارة شبه اليومية التي أري فيها في غفوتي أبي أو أمي، أو كليهما معاً. .. وفي رمضان في سجني الصغير كنت أستقبلهما بعد أن أنهي صلاة العشاء والتراويح والدعاء.. كنت أستلقي وأغمض عينيّ فما قيمة الإضاءة ونورهما يستوطن قلبي وصدري ويتسرب لنفسي الأمل في الزيارة التي تبلل شفتيّ وترطب قلبي وتملأ عينيّ! .. في حلمي كثيراً ما كنت أمد يديّ لأ لامسهما، للتثبت من وجودهما معي روحاً وجسداً، فلا أتمكن!!، فتلامس يداي جدران الزنزانة، ورعشة ووحشة الوحدة، والظلام الذي يملأ المكان والزمان! وخارج سجني أفعل نفس الشيء، فلا أجد شيئاً تغير غير لون الجدران .. مات أبي لأن الموت حق، ولأنه عرف الحق، وعاش من أجله، وعزّ عليه أن يراه مهضوماً، مطعوناً، مكلوماً!!.. مات ولم أحيي ذكراه الأولي ولا الثانية ولا الثالثة، ولا الرابعة، فلم يكن بامكاني أن أشارك من سجني!! واليوم أحيي ذكراه في مكتبه الذي أصبح مقراً لحزب الغد .. بآيات بصوت الشيخ محمد رفعت الذي كان يحبه وباستعادة آخر ما سمعته منه من أبيات تقول: «لا تصالح.. ولو منحوك الذهب / أتري حين أفقأ عينيك.. ثم أثبت جوهرتين مكانهما، هل تري؟ هي أشياء لا تشتري / سيفان سيفك / صوتان صوتك/ إن مت فللبيت رب / وللطفل أب فلا تصالح»!!. .. اليوم يتوافق موعد ذكراه هجرياً مع ذكري 7 سبتمبر موعد الانتخابات الرئاسية 2005 ولعلنا نستقبل العزاء اليوم بعد العشاء مرتين!!