في دفاع أعداء حرية التعبير عن إنشاء أجهزة لقمع هذه الحرية، يتهمون من يعترض علي إنشاء مثل هذه الأجهزة بأنهم يرفضون «تنظيم» أداء وسائل الإعلام، وأنهم يريدون استمرار حالة الفوضي والانفلات التي تسمح لبعض هذه الوسائل بعدم الالتزام بالحد الأدني من المعايير المهنية التي تصون حرية التعبير من أن تلطخها ممارسات منحطة وهدامة، خاصة في مجال التعصب الطائفي والمذهبي أو الانحطاط بمستوي الخطاب الإعلامي إلي مستوي من الإثارة الرخيصة أو السوقية المبتذلة. والحقيقة الناصعة تؤكد أن رافضي هذا التوجه ممن يرون في تشكيل «مجالس» أو «مؤسسات» حكومية يعهد إليها بمهمة هذا التنظيم إنما يعترضون علي تولي أجهزة حكومية مسئولية هذا «التنظيم» ويرحبون ترحيباً قوياً بأي «تنظيم» حقيقي يوقف حالة الفوضي والانفلات التي لا ينكرها منصف في الساحة الإعلامية بكل تنويعاتها من صحف مطبوعة وإذاعة وتليفزيون. والعالم كله خاصة الدول التي تحترم حرية التعبير تنشئ «مؤسسات» مستقلة استقلالاً حقيقياً عن الحكومة، وهذه المؤسسات تتولي بسلطات واضحة صيانة حرية التعبير من عبث المنحرفين والمنفلتين وأيضا من أعداء حرية التعبير المتربصين بها والراغبين في تقييد هذه الحرية. بهذا المفهوم المنحاز بقوة «لتنظيم» النشاط الإعلامي بعامة ونشاط القنوات التليفزيونية خاصة، ترفض هذه القوي المدافعة عن حرية التعبير إنشاء ما تسميه الحكومة «المجلس القومي لتنظيم البث المرئي والمسموع» فهذا المجلس لا يتمتع بقدر معقول من الاستقلال والحرية، بل هو «مجلس حكومي» وإن ضم في تشكيله «شخصيات عامة» فهذه الشخصيات تختارها الحكومة، ومعيار الاختيار دائمًا هو مدي الولاء للحكومة أو لنظام الحكم، وبالتالي فوجود شخصيات عامة «مستقلة شكلا» لا ينفي عن هذا المجلس أنه «مجلس حكومي» يأتمر بأمر الحكومة عمليا وإن كان يتمتع «بالاستقلال شكلاً»، والأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تحصي ولعل النموذج الأكثر وضوحاً هو حالة «المجلس القومي لحقوق الإنسان». لقد أنشأت الحكومة «المجلس القومي لحقوق الإنسان» وضم التشكيل عددا من الشخصيات العامة المشهود لها بالنزاهة والاستقامة والخبرة المتميزة، وهللت الحكومة لهذا المجلس باعتباره الجهة التي ستتمكن من الحفاظ علي حقوق المواطنين. واستبشر البعض بهذا المجلس استناداً إلي وجود عدد من الشخصيات المحترمة في تشكيله، لكن الحكومة استطاعت بواسطة رجالها في هذا المجلس وباللوائح والنظم التي وضعت لهذا المجلس، وبمناورات تتقنها الأجهزة الأمنية جيدًا.. استطاعت الحكومة أن تحول هذا «المجلس القومي لحقوق الإنسان إلي لافتة» - مجرد لافتة - تشير إليها ليراها المراقبون الأوروبيون والأمريكيون ولتثبت الحكومة للمؤسسات الدولية المعنية بحقوق الإنسان أنها ملتزمة بالحفاظ علي هذه الحقوق وأن «مجلسها القومي» يعمل علي صيانتها. هذه التجربة الماثلة لكل صاحب بصر وبصيرة تكشف عن أسلوب الحكومة في المناورة وفي الالتفاف علي أي دعوة للحفاظ علي حقوق المواطنين وفي مقدمتها الحق في حرية التعبير. وحتي لا تسارع فرق الطبل والزمر في النظام بالصراخ منددة بموقف معارضي إنشاء هذا المجلس، واصفة المعارضين بأنهم يرفضون «التنظيم» المتبع في جميع الدول المحترمة، وأنهم - أي المعارضين - لا يقدمون الحل البديل، فإنني أتقدم برؤية عملية تحقق «التنظيم» المنشود وتقضي علي الفوضي والانفلات وتصون في الوقت نفسه حرية التعبير باعتبارها من أهم حقوق المواطنين. ما أقترحه ليس اختراعًا أدعي أنني صاحب الفضل فيه، بل هو نموذج مطبق في البلاد المحترمة، وأبرز مثال لهذا النموذج هو «مجلس أمناء هيئة الإذاعة البريطانية»، فهذا المجلس لا يتبع الحكومة، بل يتبع مجلس العموم الذي يقابل مجلس الشعب في مصر.. وهنا لابد أن نؤكد أن تبعية المجلس المقترح لمجلس الشعب في مصر لا يمنح هذا المجلس الاستقلال والحصانة التي يتمتع به مجلس هيئة الإذاعة البريطانية، لأن مجلس العموم هناك يمثل إرادة الشعب تمثيلا حقيقيا لأن أعضاءه تم اختيارهم عبر انتخابات حرة ونزيهة تماما، أما في مصر فكلنا يعرف أن مجلس الشعب يتشكل بتزوير فاضح وفاجر. وللتغلب علي هذه الصعوبة فإنني أقترح أن يتشكل أي مجلس أمناء مماثل من أعضاء تختارهم مجالس إدارة «النقابات» معنية بالحريات مثل نقابة الصحفيين ونقابة المحامين واتحاد النقابات الفنية، وممثل لنوادي هيئات التدريس بالجامعات، وأحد أساتذة الإعلام يختاره بالانتخاب عمداء كليات الإعلام، واثنان من «نقابة الإذاعيين» بعد تشكيل هذه النقابة، وتقوم هذه المجموعة المختارة «بصفاتها» باختيار ثلاثة من الشخصيات العامة المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والاحترام. ويتمتع هذا المجلس بالاستقلال الكامل عن أي جهة حكومية، ويمكن أن يقدم تقاريره لمجلس الشعب، علي أن يتم نشر هذه التقارير بشكل دوري في جميع وسائل الإعلام، ويتمتع أعضاء مجلس الأمناء هؤلاء بحصانة خاصة بعدم عزلهم، ويكون هذا المجلس هو المسئول مسئولية كاملة عن مراقبة الأداء المهني للقنوات الإذاعية والتليفزيونية، وتكون له صلاحيات تمكنه من ردع المؤسسات الإعلامية التي لا تلتزم بمواثيق الشرف المهنية. أما الإذاعيون في الإذاعة والتليفزيون فتتولي تنظيم شئونهم ومحاسبتهم بمعايير الأداء المهني فيخضعون «لنقابة مهنية» مثل نقابة الصحفيين، وقد أتم الإذاعيون في الإذاعة والتليفزيون بالفعل صياغة مشروع قانون لإنشاء نقابتهم المهنية، وتمت مناقشة ملاحظات أداها وزير الإعلام ومستشاروه القانونيون وتسلم وزير الإعلام الصيغة النهائية لمشروع قانون النقابة المهنية واعداً بتقديمه باسم الحكومة لإصداره بمجلس الشعب في آخر دورة له، والمؤسف أن المشروع استقر في أدراج الحكومة ولا أحد يعلم إن كان مقدمة لتحنيطه وإبقائه كأحد الآثار التي تعرض علي الأجيال المقبلة أم أن الحكومة ستنفذ وعد وزير الإعلام للإذاعيين بإصدار قانون إنشاء النقابة المهنية للإذاعيين «راديو وتليفزيون». إنشاء هذه النقابة هو أحد أهم وسائل تنظيم البث الإذاعية والتليفزيونية والقضاء علي حالات الانفلات والفوضي السائدة الآن في غياب «نقابة مهنية» هي القادرة والمؤهلة للقيام بمهمة التنظيم الذي يمنع الفوضي ويحمي حرية التعبير.