لم يعد يدهشنا أحد الآن إذا أدلى برأي غريب أو بفتوى شاذة أو انقلب من حال إلى حال دون منطق أو مقتضى، أو إذا غابت الحدود بين الخاص والعام وانقلبت القاعدة، فأصبح العام في خدمة الخاص بل ومسخرا من أجله دائما.
بهذا الإحساس استقبلت رأي رجل الأعمال نجيب ساويرس في مقاله بالأخبار الأحد31أغسطس الماضي، بعنوان "اشتم أي حد وادفع عشرة آلاف جنيه.. يا "بلاش" الذي يرجع فيه ظاهرة الانفلات الإعلامي والتشهير بسمعة الشرفاء إلى غياب العقاب الرادع ونتيجة لضغوط كبيرة مارسها إعلاميون وناشطون حقوقيون،
أدت إلى تعديل الباب السابع من قانون العقوبات عام 2006 (في عهد مبارك) الذي ألغى العقوبات المقيدة للحرية في جرائم النشر والاكتفاء بالغرامة المشددة.. ويرى أن هذا التعديل أحدث فراغا تشريعيا وأخل بالمساواة أمام القانون بين حرية الصحفي وحق الأفراد،
وأنه لن يملأ هذا الفراغ ويحقق التوازن إلا تغليظ العقوبة إلى الحبس في حالة العود، هذه تقريبا خلاصة رأي السيد ساويرس الذي نصب نفسه "خبيرا قانونيا" في قضايا السب والقذف ويعرض الاستشارة المجانية لمن يحتاجها "اشتم من يشتمك وادفع الغرامة"!
إذن ساويرس رجل الأعمال الذي يلعب بالسياسة ويستثمر في الإعلام ويدلي بالآراء في كل شأن عام ضاق صدره ولا يرى أن الفوضى تعالج بالتنظيم والقوانين التي تستمد احترامها من الدستور الذي تجاوز أفكار ساويرس واحترم إرادة الشعب وتضحياته في 25 يناير و30 يونيو وما قبلهما وما بينهما وما بعدهما من أجل العدالة والكرامة والحرية.
هذا الدستور الذي مازال يحتاج منا نضالا طويلا حتى تترجم إيجابيات كثيره من نصوصه إلى أدبيات حية وتشريعات نابضة بالحياة ومنظمة للحقوق وليست مصادرة لها.
ساويرس الذي كلما تم التضييق عليه في أي عصر لم يجد إلا المثقفين والحقوقيين.
الذين جمعهم حوله يدافعون عنه بعد أن صدق بعضهم حسن نواياه وهو الرجل الذي يقود حزبا ليبراليا يرفع شعارات الديمقراطية والحرية والانفتاح على كل الأفكار.. ثم نجده متلبسا في هذا المقال وهو يقدم رؤيته لحل فوضى الإعلام بإعادة إنتاج أفكار ترزية قوانين مبارك وقادة التمكين في جماعة الإخوان الذين أخذوا موقفا معاديا من حرية التعبير والإعلام والصحافة وتبنوا - كل بطريقته -فلسفة الترويع والعقوبات ومصادرة أصل الحق بدعوى تنظيمه واخترعوا أكاذيب ومغالطات "الصحفي ليست على رأسه ريشة"، ووصفهم "بسحرة فرعون"، كما اخترعوا حكاية التمييز في المراكز القانونية بين الصحفيين والإعلاميين وبين غيرهم،
رغم علم الجميع أن القاعدة التشريعية هي دائما عامة ومجردة لا تسعى إلى تمييز فئة من آحاد المواطنين والكل أمام القانون سواء، أيا كان مرتكب هذه الجرائم صحفيا أو غير صحفي.
فحرية الصحافة والإعلام هي فرع من حرية التعبير وهي إحدى الحريات العامة، وهي ضمانة لكل مواطن في المشاركة والتعبير وليست ميزة تخص الصحفيين أو الإعلاميين دون غيرهم،
ونضال الصحفيين طوال تاريخهم في هذا الملف لم يكن دفاعا عن مطالب فئوية، بل من أجل حقوق مقررة للشعب المصري، وعن مهنة لا تحيا إلا بالحرية ولا تنمو أو تتطور إلا بمزيد منها، وهذا لا يفوت على فطنة ساويرس "الخبير القانوني" الذي رأى أن من حقه أن يشتم من يشتمه ويدفع الغرامة، فأين إذن هذا التمييز؟!
إنني لا أطمع أو أتوهم أن يتخلى رجل أعمال عندنا عن مصالحه من أجل أن تحيا مصر، لكننا لا نقبل أن نتخلى عن نضال الجماعة الصحفية وكل القوى الديمقراطية على مدار عقود طويلة من الزمن، ليصب في رصيد حساب تقدم هذا الوطن، وليس في خزائن أموال لا نعرف كيف تكدست.. كما أننا ونحن نسعى الآن من خلال عمل دؤوب تشارك فيه كل الأطراف المعنية لبناء منظومة إعلام جديدة بترجمة مواد الدستور الخاصة به إلى تشريعات وقوانين تؤدي إلى التنظيم الذاتي للمهنة، لا يجب أن يرهبنا حديث "فساد الذمم" في الإعلام لأننا جميعا نعلم من أفسد من ومن يحاولون بأموالهم ومن أجل مصالحهم أن يفسدوا كل شيء.. كما أننا ندرك مخاطر استمرار الخلط بين الإعلام الخاص وإعلام رجال الأعمال، وما أحدثه هذا الخلط من كوارث، ونال من مصداقية ومهنية كثير من المنابر الإعلامية.
وختاما هل من المفيد تكرار الإشارة إلى أن الشعب المصري الذي رفع شعار الحرية في يناير 2011 هو نفسه الذي خرج من أجل الدفاع عن حرية الصحافة في مظاهرة حاشدة عام 1909؟ وهل من المفيد أن نعيد التذكير بالتراث العظيم لمحكمتي النقض والدستورية المساند لهذه الحرية وأنه كلما زادت هذه الحرية زادت المسؤولية، واللتان أكدتا "أن الشطط في الممارسة أو المغالاة في النقد وإبداء الآراء ليس مبررا للقيد، وأن المدافعين عن آرائهم ومعتقداتهم كثيرا ما يلجأون إلى المغالاة، وأنه إذا أريد لحرية الرأي أن تتنفس في المجال الذي لا يمكن أن نحيا بدونه، فإن قدرا من التجاوز يتعين التسامح فيه ولا يسوغ بحال أن يكون الشطط في الآراء مستوجبا إعاقة تداولها".
ويا بعض رجال الأعمال دقيقة سكوت لله، ففي الأقوال صخب في الحديث عن الدولة الديمقراطية تتشبهون فيه بالغرب صباحا ومساء، وفي الأفعال دعوات في الداخل لإعلاء مقام الدولة المستبدة الفاسدة واتجاه للخارج الغربي فقط لاستقبال أموالكم التي صنعت في مصر.