«الفنانون فى حجراتهم الصغيرة الموحشة يبدعون أعمالاً عبقرية، بينما يتخم سائر المجتمع على مائدة المادية، يتجشأون ويتجاهلون وجودهم. ومع ذلك فالفنانون وحدهم يملكون الهويات الباطنة والقوى الكامنة، وفى مستقبل الأجيال هم من يضحك فى النهاية». هكذا تتحدث «مارجريت أتوود» عن الكاتب من وجهة النظر الرومانسية (البوهيمية) فى كتابها الجميل «مفاوضات مع الموتى» –ترجمته عزة مازن وأصدره المجلس الأعلى للثقافة ضمن سلسلة المشروع القومى للترجمة- وتأخذنا من خلاله «أتوود» فى رحلة تأملية لكاتب حول الكتابة. تسترجع «أتوود» نشأتها فى عالم لم يكن فيه التليفزيون بطلاً من أبطال حياتنا بقدر ما كانت القصص المصورة المرسومة، تسترجع شخصية البطل ذو القوى الخارقة والذى لم يكن شخصًا ذو شأن فى حياته العادية، فسوبرمان ليس سوى «كلارك كنت» مقدم النشرة الإخبارية ذى النظارات السميكة، وبات مان (الرجل الوطواط) ليس سوى أحمق ثرى عابث فى حياته العادية، وسبايدرمان (الرجل العنكبوت) مجرد مصور صحفى فاشل غير قادر على دفع إيجار الغرفة التى يعيش فيها. وتقول «أتوود»: «جميعنا كأطفال تمنينا أن نكون مثل البطل الخارق فى ضخامة جسده وقوته ونفسه الطيبة، أما من يحمل الإسم الحقيقى الآخر، والذى كان دومًا ضعيف البنية وفقير ويرتكب الأخطاء وتتحكم فيه كائنات أقوى منا، فذلك هو ما كناه بالفعل». وهذا حقيقى تمامًا، فنحن لم نحلم يومًا فى طفولتنا بأن نكون «كلارك كنت» بينما حلمنا بأن نكون «سوبرمان»، إنها تلك الازدواجية فى شخصية البطل الخارق التى تنعكس لتلقى بظلالها على أرض مُخيلتنا، تلك المخيلة التى تتقاطع مع ظلال الازدواجية بداخل شخصياتنا نحن أيضًا، ليمثل هذا التقاطع رغبتنا فى أن نكون الشخص الآخر الذى لسنا عليه والذى نعلم فى الوقت نفسه أنه يحيا بداخلنا وأنه جزء منا ومن مكونات شخصياتنا إلا أننا غير قادرين على إخراجه للحياه. تلك الورطة هى ما تدفع بالفنان إلى أن يصبح فنان، وبالتحديد أكثر كاتب. فالكتابة «ورطة» و«حل» فى نفس الوقت، «ورطة» من حيث أن «فعل الكتابة ذاته يقسم النفس جزأين»، و»حل» من حيث أنها تخلق مخرجًا لتلك الشخصية الأخرى القابعة بداخلنا لتخرج إلى الحياه على الورق على هيئة شخصيات يتفاعل معها الناس لتتحول مع الوقت من شخصيات صنعها خيال كاتب وحيد منعزل فى غرفته إلى شخصيات قائمة بحد ذاتها نتحدث عنها وكأنها شخصيات حقيقية حتى أننا ننسى أحيانًا إسم الكاتب ونتذكر فقط إسم وشكل وهيئة الشخصية التى ابتكرها وصنعها خياله. إنها ازدواجية الكاتب التى تدفعه إلى دفق جزء من روحه بداخل كتابته ليتحول هذا الجزء مع الوقت إلى كيان قائم بذاته بعيدًا عن الكاتب الذى يظل فى الخلفية منكفئًا على مكتبه يكتب وينفخ الروح فى كتابته وشخصياته. تستشهد «أتوود» لإيصال وجهة نظرها بقصيدة «براوننج» الكابوسية «إلى البرج المظلم ذهب تشيلد رولاند»، والتى تتناول بحث شخص يسمى «تشيلد رولاند» عن شىء لن نعرفه من خلال القصيدة، فقط سوف نعرف أنه يبحث عن شىء ما، وفى سبيل ذلك يتغلب على كل ما يعترض طريقه من مصاعب. تحكى القصيدة أن البرج الذى يسعى إليه بطلنا كان بناء يبعث فى النفس الرهبة والخوف، لا سبيل لاختراقه، ومعلق عليه قرن معدنى ضخم يتحتم عليه النفخ فيه لإعلان تحدى من يعيش فى البرج المظلم، وهو ما نحسبه بشدة نوعًا من الوحوش». وصل «تشيلد رولاند» إلى البوق ونفخ فيه ليخرج من البرج الوحش الذى نكتشف أنه هو نفسه «تشيلد رولاند» فى حال كتابة قصيدته، إنه يتحدى نفسه، وهكذا يخرج قرينه ليواجهه، ولتمتزج المادة وضدها ويكتمل السعى وتنتهى القصيدة. ومع الانتهاء من القصيدة يتلاشى «تشيلد رولاند»، إلا أنه يعلم جيدًا أن وجوده سيتواصل بداخل القصيدة التى كتبها لتوه، والتى سوف تعيش بعد أن يكون هو نفسه قد مات.