إذا كانت منطقة وسط البلد في أي مدينة تضرب جذورها في عمق الزمن، هي روح هذا المكان وعصارته، فإن الأمر مع وسط البلد في القاهرة أكثر من ذلك بكثير، إذ لا يحتشد في شوارع وسط البلد المتداخلة «تاريخ حي» فحسب عبر الأماكن والبيوت والعمارات والأرصفة والنقوشات والآثار الباقية للملوك والسلاطين والرؤساء الذين مروا هنا، وإنما هناك أيضاً تلك القصص التي لا تموت أبداً عن بشر وسط البلد الذين عاشوا هناك وصنعوا ألف قصة وقصة، تصلح كل واحدة منها لأن تكون فيلماً سينمائياً ثريا.ً من رحمة الله أن من أقدم علي تسجيل تاريخ البشر والأماكن في وسط البلد هو روائي حكاء من طراز استثنائي هو «مكاوي سعيد»، الذي يعرف كثيرون روايته ذائعة الصيت «تغريدة البجعة» التي رشحت لجائزة البوكر العربية في دورتها الأولي عام 2008، ذلك أن كتاب «مقتنيات وسط البلد» يتحرك في مسافة شديدة المتعة بين التسجيلية والروائية، وهذا أمر لو أفلت من بين يدي كاتبه لخرج الكتاب مصمتا بارداً، وهو أمر لم يحدث مطلقاً في «مقتنيات وسط البلد» الذي خرج صاخباً متدفقاً دافئاً صادقاً وموثقا في ذات الوقت، وكأن صاحبه لم ينس أن أخرج عدداً من الأفلام الوثائقية في وقت سابق. وإذا كان الجزء الأول من الكتاب والمسمي ب «كتاب البشر» يحكي سيرة أبطال وسط البلد فإن القارئ لابد أن يتساءل بعد أن ينتهي من قراءة هذا الفصل: «وهل كل هذه القصص حقيقية فعلاً؟»، ولا يقدم «مكاوي سعيد» إجابة حاسمة شافية عن هذا السؤال في الكتاب، لكن الثابت أن هناك بشراً يخرجون من الكتاب ويكاد يعلنون عن أنفسهم مثل ذلك الجزء المعنون ب «الكاتب الظاهرة» وفيه يحكي عن ذلك الكاتب الذي ملأ حوائط القاهرة صخباً منذ نهاية السبعينيات وحتي منتصف الثمانينيات معلناً عن نفسه كأديب الشباب، معتبراً أنه «لم يستطع كاتب في العالم أن يكتب أحلام اليقظة بقدر هذا الأديب!»، كيف لا وقد سجل في أحد كتبه أنه عندما أصر التليفزيون علي عمل لقاء معه أصر أن يفردوا له السجادة الحمراء من الدور الرابع وحتي الدور الأرضي، وكيف أنه وافق علي إجراء حوار مع الإعلامي فاروق شوشة مقابل 10 آلاف جنيه تبرع بنصفها لحصد الكلاب الضالة! من الكاتب الظاهرة ينتقل مكاوي سعيد بنعومة ليرصد ملامح وغرائب بشر وسط البلد، عبر حكي أخاذ، فيكتب عن «مناضل الكابتشينو» الذي استطاع أن ينتزع شقة في وسط البلد من مالكتها السويسرية، ليأخذها غصباً أو احتلالاً أو زوراً قبل أن يتعرف في الثمانينيات علي سكرتيرة لمسئول فلسطيني كبير، ويتزوجها وتبدأ من هنا رحلة نضاله، فينشر الكتب التي تؤيد القضية الفلسطينية وأخري مترجمة عن العبرية بعنوان «اعرف عدوك» قبل أن ينقلب هذا الشعار إلي «الصلح مع الآخر» حينما تطلبت «السبوبة» ذلك!، وهو يتابع رحلة صعوده «النضالي» هذا يتذكر المؤلف صاحبهم هذا وهو «يتجرع الكابتشينو في صمت في كافيتريا «لا بأس» مفكرا مستخدما حنجرته الجهورية في التنظير لما أسماه بضرورة الدفاع عن أرضنا ومعتقداتنا ومقدساتنا العربية ضد العدو الصهيوني حتي الموت»! وإذا كان جزء البشر في الكتاب شديد الثراء ويحفل بنماذج بشرية عجيبة كرجل اللاءات الثلاثة وعلا ريختر وسيدة الممر والبرنس، فإن كتاب المكان لا يقل إمتاعا، خاصة وأن الجزء التوثيقي للكتاب يتضاعف هنا، لاسيما وأن بعضاً من هذه الأماكن التي يوصفها الكتاب قد أصبحت أثرا بعد عين، وكأن المؤلف «مكاوي سعيد» بتسجيليا هنا من الذاكرة يريد أن يبقيها خالدة أبدا، مثل مقهي سفنكس الذي كان موجودا أمام سينما راديو بشارع طلعت حرب في الممر الذي بداخله المركز الثقافي الهندي وكان المقهي الذي يلتقي فيه نجيب محفوظ أصدقاءه قبل أن يستقر في ريش.. هذا المقهي الآن محل أحذية طبعا!، ومطعم علي حسن الحاتي الذي كان أول مطعم يبيع للجمهور اللحم المشوي علي الفحم في القاهرة عام 1930 وكان أشهر زبائنه الملك فاروق والأعضاء الكبار في حزب الوفد وأسرة جمال عبد الناصر ومحمود المليجي وتحية كاريوكا وقد تحول جزؤه السفلي الآن إلي مقهي حديث لا يتناسب طبعا مع ديكوره الشبيه بالقصر. ولا يكتفي «مقتنيات وسط البلد» بتوثيق المقاهي والمطاعم في تلك المنطقة الثرية وإنما يفعل ذلك مع البارات والفنادق والتجمعات الثقافية - ومن قبلها البشر طبعا - الأمر الذي يجعل الكتاب موسوعة حقيقية مكتوبة بنظرة المحب الذي أفني عمره وبروح الروائي المخضرم تتحدث عن قلب القاهرة الساحرة الآسِرة الهادرة الساهرة الساترة السافرة كما سجل الشاعر الكبير سيد حجاب في قصيدته المغناة «هنا القاهرة»، ورغم أن طباعة الكتابة الأنيقة والفخمة والرسوم المصاحبة لعمرو الكفراوي - التي صنعت عالما موازيا للكتابة- تجعل من المنطقي أن يكون ثمن الكتاب مرتفعا بعض الشيء، إلا أن الاقتراح بتقديم نسخة شعبية من الكتاب - ولو علي جزءين - ربما يجعله في متناوله قراء أكثر من عشاق وسط البلد والكتابة العذبة عنها.