«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نكبة سلوان والطريق إلى القدس
نشر في الشروق الجديد يوم 18 - 09 - 2010

عندما تخرج من البوابة الشرقية الجنوبية للبلدة القديمة، باب المغاربة، أو باب سلوان، تجد نفسك على الطريق الدائرى المحيط بمدينة القدس، وغالبا ما ترى الحافلات يترجل منها سياح غربيون من كبار السن: تراهم يقفون على حافة الطريق عند السور يتطلعون إلى الوادى الخصيب ببيوته الجميلة المتلاصقة، ربما يلحظون تلك السيدة التى تصحح الكراريس فى شرفتها الواسعة، ويبتسمون لرؤية الطفلة ذات الشعر اللامع والسنوات الأربع وهى تقود دراجتها فى الباحة، وسوف يتذكر بعضهم أحفادا محبوبين فى كانساس أو أوتاوا.
لو أننا فى إيطاليا أو إسبانيا أو حتى تركيا لانتهى الأمر هنا: يأتى السياح، يتفرجون على المكان، وينفقون بعض النقود، ثم يرحلون. لكننا، فى القدس وفى جوارها، نرى التأثير المدمر لهؤلاء السياح، وهم فى جهل عنه. هذه البلدة التى ينظرون إليها والتى تفترش الجبل والوادى جنوب القدس هى سلوان، موطن خمسة وخمسين ألف فلسطينى، استولت عليها إسرائيل حين أخذت القدس عام 1967، وهى حاليا محل تضاد حاد بين حقوق السكان الفلسطينيين وبين خطط إسرائيل للمنطقة، خطط تنفذ عن طريق سيل من الإجراءات الإدارية والتحالفات السرية والمشاريع التى تدعى التقدم، خطط ما كان لها أن ترى النور لولا الأموال التى تنهمر على إسرائيل من الغرب.

ماذا يعرف السياح عن كل هذا؟ هؤلاء المسنون المسالمون الذين وصلوا إلى هنا على متن حافلات الصندوق القومى اليهودى ليزوروا موقع التنقيب عن مدينة داود، المدينة التى يدعى الإسرائيليون أنها تقع تحت حى وادى حلوة فى سلوان ليبرروا الحفائر التى يحفرونها والأنفاق التى يشقونها فى بطن الجبل تحت منازل أهل البلد.
تقول مريم وهى تضع الكراسات جانبا «هذا الطريق الممتد من القدس عبر الوادى كان طريقا رئيسيا، وكانت المتاجر التى تقع عليه تدر دخلا جيدا سواء كانت محال آيس كريم أو كافيتريات أو مطاعم أو محالا تبيع الهدايا التذكارية، حتى جاءت إيلاد وأنشأت منظمة مدينة داود، فهم يصطحبون الزوار إلى مركزهم ولا يسمحون لهم برؤيتنا بالمرة».

من عادات سلوان المتأصلة وبالذات حى وادى حلوة الترحيب بالغرباء، فسلوان آخر بلد يستريح فيها القادم إلى القدس من جهة الجنوب، كما أنها منتزه مفضل لسكان القدس أنفسهم، يقصدونها للنزهات الخلوية، ويلعب الأطفال أثناء الصيف فى كهوف نبع عين سلوان الرطبة. اليوم، وحتى فى ظل الظروف التى تعيشها البلاد، يسألنى الناس، وسط الأتربة والضجيج المميكن الذى تولده ايلاد، إن كنت أزور سلوان من أجل «شمة هواء».
إيلاد بالعبرية تعنى «إلى مدينة داود»، أسسها ديفيد بئيرى عام 1986 وقد ترك الجيش «تحت تأثير إحساسه برغبة الشعب اليهودى الجارفة فى العودة إلى صهيون»، وجعل رسالتها «تعزيز الروابط المعاصرة والتاريخية بين إسرائيل والقدس».
من بين أعضاء مجلس إدارتها ثلاثة من مجلس قيادة المستوطنين. وقد ظلت إيلاد لمدة طويلة ترفض الكشف عن هوية مموليها لمسجل المنظمات غير الهادفة للربح، وحين تقدمت أخيرا بالأسماء فى ديسمبر 2007 طلبت عدم نشرها؛ لأن ذلك «قد يضر بالمنظمة والمانحين»، واستجاب المسجل لطلبها. ويذكر أن (المليارديرين الأمريكيين) ليف ليفاييف ورومان أبراموفيتش قد شوهدا فى عدد من المناسبات التى تقيمها إيلاد.
اتبعت إيلاد إستراتيجية اختراق مزدوجة.
لتعزز «الرابطة بين إسرائيل والقدس» بدءوا فى الحفر تحت سلوان وتحت المسجد الأقصى بحثا عن مدينة داود التوراتية ولخلق المزار السياحى «مدينة داود»، وقد ادعوا أن ما يقومون به من تنقيب هو عملية إنقاذ سريع للآثار، وبهذا تحايلوا على ضرورة استخراج تصاريح رسمية للحفر، وقد استمرت عملية «الإنقاذ السريع» هذه ما يزيد على عشر سنوات حتى الآن، وبدأت بيوت وادى حلوة فى التصدع والهبوط.
أما من أجل «مساعدة الشعب اليهودى على العودة إلى صهيون» فقد بدأت إيلاد عام 1991 فى الاستيلاء على الممتلكات الفلسطينية فى سلوان، وذلك بمساندة قوية من آرييل شارون الذى كان فى ذلك الوقت وزير البناء والإسكان. واستهدفت إيلاد أساسا حيين من أحياء سلوان: حى وادى حلوة، وحى البستان.

كان أول صيد لإيلاد هو دار آل عباس، وكانت تشمل 9 شقق ومخزنين. حكت ميشيل زوجة ديفيد بئيرى «إن عباس كان المسئول عن النبع، فأخذ ديفيد كارنيه مرشد سياحى ووضع صورته عليه وبدأ يصطحب سواحا مزيفين فى رحلات سياحية.. حتى صارا صديقين.. وطبعا كان الأمر كله مسرحية.» فى عام 1987 ضغطت إيلاد على الإدارة الأمريكية كى تعلن دار عباس «ملكية مالك غائب»، وفى أكتوبر 1991 قاد بئيرى مجموعة من المستوطنين اقتحموا البيت فى عملية شبه عسكرية، وأخذ الدخلاء يغنون ويرقصون ورفعوا العلم الإسرائيلى على سطح المنزل فى الفجر.
لجأت عائلة عباس إلى المحاكم، وحكم قاضى منطقة القدس ب«عدم وجود أساس واقعى أو قانونى» لعملية الاستيلاء على البيت، بل ووصفها بعملية «تفتقر بشدة للأمانة»، ورغم ذلك فما زال النزاع القضائى مستمرا، وما زال أعضاء إيلاد يحتلون البيت ويقومون بمحاولات للاستيلاء على غيره من الممتلكات الفلسطينية، وقد استولوا حتى الآن على نحو 25٪ من وادى حلوة من خلال حزمة من الإجراءات تلجأ إليها إسرائيل للسيطرة على الشئون الفلسطينية: قانون الملكية الغائبة، ونزع الملكية للمصلحة العامة، ومصادرة وإزالة البيوت المبنية بدون تصاريح.

بنى أ ق حجرة لأطفاله ملحقة ببيته فى وادى حلوة، «غرفة واحدة على أرضى وفى حدود نسب البناء التى يسمح بها القانون، قدمنا طلب تصريح والبلدية تماطل فى البت فيه، إذا منحونا التصريح بيكلف حوالى خمسين ألف دولار، وكل سنة يفرضوا علينا غرامة، دفعت 7 غرامات حتى الآن مجموعها عشرة آلاف دولار، هذا غير الأرنونة (الضريبة العقارية) تأخرنا مرة فى دفعها فجاءوا وأخذوا التليفزيون والرسيفر والدى فى دى، ولما سددنا لم نستعد الأجهزة. باتصور رواتب حكومة إسرائيل كلها تأتى من غرامات الفلسطينيين».
ما يحدث فى سلوان ليس فريدا بل هو جزء لا يتجزأ مما يحدث فى الأراضى الفلسطينية المحتلة وإن اختلفت الأساليب من مكان لآخر، فقبل قدومى إلى سلوان تجولت أسبوعا فى الضفة ورأيت كيف أن كل مجتمع سكنى فلسطينى له مستوطنته التى تتربص به، تكاد لا تجد موقعا فى الضفة ترفع فيه بصرك فلا ترى مستوطنة محاطة بالأسلاك الشائكة، ترتفع فوقها الأعلام والهوائيات والكاميرات، وتختبئ داخلها الأسلحة: بيرزيت لها بساجوت، بيت لحم لها حارحوما، بيت جالا لها جيلو، والخليل مصطفاة، لها كيريات أربع فى الضواحى وأفرام أفينو وتل الرميدة فى القلب، والقدس تفوق الجميع فتمسك بخناقها المستوطنة العملاقة معالى أدوميم من الشرق والمستوطنات فى الشيخ جراح والبلدة القديمة فى وسط المدينة وسلوان من الجنوب.
استيلاء إيلاد على الممتلكات الفلسطينية يتبع التكتيك الإسرائيلى المعروف فى خلق واقع على الأرض، بينما مشروع مدينة داود يخلق واقعا فى العقول.
يتفق معظم العلماء على أنه لم تظهر إلى الآن أى أدلة على وجود آثار للنبى داود أو لسيدنا سليمان فى موقع التنقيب، لكن السياح من أمريكا الشمالية تسحرهم القصص التى يحكيها لهم مرشدو إيلاد، وهى قصص تقوم تماما على التخمينات والتوقعات والأساطير، بل وأحيانا على الكذب الصريح. يقول البروفيسور رونى ريخ من هيئة الآثار الإسرائيلية: «وجدت حفرة بيزنطية فقالوا إنها جب إرميا، فقلت لهم إن هذا هراء»، لكن المرشدين ظلوا يقولون للسياح إن هذا هو الجب الذى رمى فيه إرميا. يأتى إلى هنا نحو نصف مليون سائح كل عام، يتلقون التاريخ من منظور إيلاد. كتب الأستاذ بينيامين زئيف كيدار، رئيس مجلس إدارة هيئة الآثار الإسرائيلية، فى خطاب عام 2008: «تدرك هيئة الآثار الإسرائيلية أن إيلاد وهى منظمة ذات أهداف إيديولوجية معلنة تقدم تاريخ «مدينة داود» بأسلوب منحاز .

كل هذا ما كان له أن يحدث بدون دعم الدولة الإسرائيلية. يقول لى أحد النشطاء الإسرائيليين: «لو سألت الحكومة الإسرائيلية عما يحدث فى سلوان سيكون الرد هو أن هذا موضوع لا علاقة له بالحكومة، وأن من يشترون هذه الأماكن وينتقلون للسكن بها أفراد عاديون يتصرفون فى حدود القانون، ولكن فى مستعمرة نوف صهيون فى القدس الشرقية تصرح الحكومة للمستوطنين بالبناء على 125% من الأرض بينما قوانين البناء فى المنطقة تشترط ألا تتجاوز نسبة المبانى 37.5% من الأرض، فى راس العمود فوق سلوان يبنون عمارات بارتفاع خمسة أدوار للمستوطنين بينما يرفضون التصريح للعائلات الفلسطينية بإضافة دور ثالث لبيوتهم. اشترت إحدى منظمات المستوطنين مبنى قسم البوليس من الحكومة. تم تحويل خط أوتوبيس فى معالى زيتيم ليخدم إحدى المستعمرات. فى سلوان تدير منظمة مدينة داود الحديقة القومية نيابة عن الدولة، وتحدد لعلماء الآثار أماكن التنقيب وما المطلوب البحث عنه.
كل هذا يجعل المرء يتساءل عن العلاقة بين دولة إسرائيل ومنظمة مدينة داود: أيهما الكلب وأيهما ذيله؟ أو ربما يمكننا القول ببساطة إن مصالحهما متطابقة».
فى دراسة مهمة أجرتها منظمة عر عميم (مدينة الأمم) الإسرائيلية بعنوان «صفقات مشبوهة فى سلوان» يصل ميرون رابابورت إلى ذات النتيجة: «رسميا إيلاد منظمة غير حكومية، ولكن دورها هو دور جهاز تنفيذى للحكومة الإسرائيلية وتحظى بدعم شامل منها». وفى تصريح دال يقول دورون سبيلمان، مدير التنمية فى إيلاد: «... نحن نكاد نكون فرعا من الحكومة الإسرائيلية، ولكن دون أن تغرقنا البيروقراطية الحكومية».

المشروع الأساسى للحكومة الآن يتعلق بالقدس، واليوم يوم 12مايو، يوم القدس يظهر هذا جليا فى كل من القدس وسلوان. سلوان اليوم فى حالة طوارئ منذ الصباح. البوليس يحاصرها. مجموعة المراقبة المحلية يسجلون بهدوء تحركات أمن المستوطنات ومركبات الجيش والبوليس. فى المقهى الواقع أسفل الوادى ينشغل ثلاثة شبان بتنظيف الموائد، يرصون الكراسى ويعيدون ملء الثلاجة بينما يراقبون فرد الأمن الإسرائيلى صغير السن المتوتر الذى يحمل سلاحا ويقوم بورديته أمامهم. 
«هؤلاء أفراد أمن خاص للمستوطنين، فهم لا يذهبون إلى أى مكان من غيرهم، إنهم يكلفون نحو خمسين مليون شيكل فى السنة تدفعها الحكومة من أموال الضرائب».
«والبوليس يحمى أفراد الأمن بينما الجيش دائما فى الجوار، فهل تتخيلين كم يكلف كل هذا»
بالأمس، عشية احتفالات يوم القدس، صرح بنيامين نتنياهو «القدس مدينتنا لم نتنازل عنها أبدا، لا حين هدم الهيكل الأول ولا حين هدم الهيكل الثانى... لا توجد أمة أخرى لديها مثل هذه المشاعر العميقة نحو مدينة من المدن.
والآن، فى عصر هذا اليوم الربيعى اللطيف، أقف فى خيمة التضامن فى حى البستان مع رجلين بيتيهما ضمن البيوت الثمانية والثمانين المهددة بالإزالة، فالدولة تريد إقامة حديقة أثرية «تستوحى روح الهيكل الثانى».
يوزعون أوراقا تقول «حيث إن الملك داود كان يتمشى فى هذا المكان فيجب أن يكون المكان مجرد حديقة ولا يليق أن توجد به بيوتنا. لاحظى أنه بالنسبة لهم «الملك داود»، أما بالنسبة لنا فهو «النبى داود»، فمن يجله أكثر»؟
«أيضا لا يوجد أى دليل على انه كان يتمشى هنا».

«وإن كان تمشى هنا، كان المكان وقتها خلاء، لم يشرد ألفا وخمسمائة بنى آدم حتى يتمشى تعرفين: طالما لُمنا آباءنا وأجدادنا أنهم تركوا الأرض والديار. يقولون ظنوا أنهم يعودون خلال أسابيع. فليكن. أما نحن فليس لنا عذر، لن نرحل، وكذلك لن يغسل أولادى الصحون فى منتزههم القومى».
فى سلوان والقدس تتوحد الإيديولوجيا اليمينية للمستوطنين مع السياسة الحكومية ومع رءوس المال الكبيرة ومصالح تجار الأراضى والمقاولين والذوق الردىء فتنتج مشهدا فريدا من السوقية والكابوس.

تحت غطاء التنقيب عن الآثار فى وادى حلوة يتم وضع أساسات مركز تجارى على مساحة مائة وخمسة عشر ألف متر مربع بدون تخطيط من المدينة وبدون تصاريح بناء، ويتوقف العمل فقط حين يصطدم بأساسات المنازل الفلسطينية
«تبدأ الشوارع فى الهبوط، هل ترين هذا الجزء الغامق من الأسفلت؟ اضطررنا إلى إعادة رصف الطريق. والمدرسة مدرسة وكالة غوث اللاجئين انهارت أرضية أحد الفصول، وسقطت أربع عشرة تلميذة فى أحد الأنفاق التى حفروها تحت المدرسة، واضطررنا إلى إخفاء الأمر حتى لا يغلقوا المدرسة بدعوى أنها غير آمنة»
لا يزال الحاجز العسكرى الإسرائيلى يغلق الشارع الرئيسى فى سلوان.

بالأمس رأيت فى القدس آلاف الشباب، طلاب المستوطنات، استجلبوهم فى باصات من أنحاء البلاد، يلبسون الأعلام الاسرائيلية على أكتافهم ويجوبون الشوارع، ويتقافزون ويطبلون وينشدون: لنا، لنا، القدس لنا. بينهم شابات يحملن أطفالهن الرضع، ويحرسهم رجال الشرطة العسكرية بأسلحتهم وستراتهم الواقية من الرصاص. البلدة القديمة مغلقة فى وجه الجميع عدا هم، حافلات المستوطنين والسياح هى فقط المسموح لها بالمرور على كل الطرق من وإلى القدس، أينما تنظر تجدهم، والمزيد والمزيد منهم يأتون، خيالة الشرطة يحيطون بهم بينما الأعلام الإسرائيلية ترفرف فوقهم، الأمهات التى تحاولن العودة إلى المنزل مع أطفالهن لا يسمح لهن بالمرور من بوابات المدينة، رجال يحملون حقائب المكتب يجلسون على الأرصفة، مزيد من العسكر يراقبون كل شىء من فوق أسوار البلدة القديمة، من وقت لآخر يأتى إلينا رجل بوليس: هل تتكلمون العبرية؟ لا. هل تتكلمون الإنجليزية؟ نعم. تراجعوا! إلى الوراء! تراجعوا! يقول أحد الواقفين بجانبنا: أظنهم يريدون منا أن نتراجع حتى إسبانيا! ثم يسألنى من وين؟ من مصر. القاهرة؟ نعم القاهرة. الله يسامح القاهرة.


يهبط الظلام
أهل سلوان يطعمون أطفالهم، يتزاورون، يشاهدون الأخبار، ويراقبون الطريق المؤدى إلى بلدتهم، فمن يعلم ما الذى يأتى منه فى أى لحظة. فى المقهى أسفل التل الشباب مهذبون مرحبون، لكنهم صامتون، يقدمون طعاما شهيا، يتابعون الماتش النهائى لكأس أوروبا على شاشة التليفزيون، لكنهم منتبهون تماما لما يحدث حول بلدتهم. على كتف الجبل فوقهم خشبة المسرح الذى أقامته إيلاد، لا يمكننا رؤيته لكننا نرى رايات «أسد صهيون»، ونرى الضوء الأزرق المنبعث من المسرح يلون سفح التل، ونسمع عبر الميكروفونات الأصوات التى تحتفل بثلاثة إسرائيليين حصل كل منهم على خمسين ألف دولار جائزة «أسد صهيون» التى أنشأها الملياردير الأمريكى موسكوفيتش لأعمال قاموا بها «لمواجهة التحديات التى تواجه إسرائيل فى مجالات التعليم والبحث العلمى والاستيطان والثقافة وغيرها...».

يقام هذا الاحتفال الذى وصفه ريتشارد سيلفرستاين من منظمة تيكون أولام بأنه «محاولة لإضفاء الاحترام على مفهوم قتل العرب وسرقة أراضيهم» بمباركة الدولة الإسرائيلية، فالجيش والبوليس يحمى الحفل ويتحدث فيه الوزير موشى يعالون و اللواء أفيجدور كاهالانى.
من المسجد الأقصى الشريف يأتى صوت الأذان، ثم سورة الرحمن: «فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ»
أنوار البيوت الفلسطينية ترصع التل، والأشجار حول المقهى حيث أجلس مزينة هى الأخرى بالأنوار، وعلى بعد عشرين مترا تزوم حافلة جنود إسرائيلية فى وضع استعداد وكشافاتها تضىء وتنطفئ.

يشعر الفلسطينيون أن إسرائيل قد انتقلت من مرحلة الاحتلال إلى مرحلة الإحلال، وأن العمل على جعل حياة الفلسطينيين فى فلسطين مستحيلة هو مقدمة لتغيير وجه فلسطين نفسها. هذا هو ما ستحققه الأموال القادمة من الغرب. كى ترى مستقبل القدس كما يخطط له، يكفى أن تزور الحى اليهودى الجديد اللامع، وتدخل متجر الهيكل، وتشترى فوط سفرة ومطبخا ولعبا كلها مرسوم عليها الهيكل الثالث وهو يبزغ من الحرم الشريف ليحل محل قبة الصخرة. فى هذا المستقبل الذى نتحرك تجاهه لن يكون بالإمكان أن ننظر حولنا فنتأمل فى الاستمرار أو الخلود أو الروح وماهى، فسوف يحل محل الأحجار والديار والأبنية القديمة التى صقلها الزمن كل ما هو جديد وحاد ومزيف، وبدلا من طرق الوادى حيث يلعب الأطفال بحرية سيصبح لدينا التلفريك ومطاعم الوجبات السريعة ودائما دائما البوابات الحديدية وحواجز الأمن وأكشاك بيع التذاكر وتسويق السلع، وستحل حكاية واحدة مكان آلاف الحكايات التى نسجها الزمن بعضها تحت وفوق وحول بعضها البعض، وهذه الحكاية لن تكون الحكاية اليهودية لأن الحكاية اليهودية فى القدس لا تنفصل عن الحكاية البيزنطية والعربية، المسيحية والمسلمة: ستكون حكاية مزورة مثلها مثل الشارة الميزوزا المزيفة التى ينحتها المستوطنون فى أبواب البيوت العربية بعد أن يستولوا عليها.
نعم، قريبا إن لم يستفق العالم، سيكون الصوت الوحيد الصادر عن القدس هو صوت رنين العملة فى خزانات الأثرياء. 

حقوق النشر لأهداف سويف مايو 2010
نشر هذا المقال فى جريدة الغارديان البريطانية
أتوجه بالشكر إلى النشطاء الفلسطينيين وإلى أهل سلوان أهل البلدة القديمة فى القدس وإلى «إ و ى» من اللجنة الإسرائيلية ضد هدم المنازل، والى منظمة دانيال سيدلمان عير عميم (مدينة الأمم).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.