بعض الليبراليين دخلوا الحزب الوطني متصورين أنهم يستطيعون أن ينفذوا برنامجهم السياسي من داخل الحزب، متوهمين انه من الممكن أن تتشكل كتلة إصلاحية داخل الحزب . وهذه الرؤية تتجاهل تاريخ الحزب وممارساته ومصدره التاريخي، وتوازنات القوي داخله. وبعض الإخوة المعارضين يتصورون أن الضغط علي الحزب عبر البيانات والمطالبات الرقيقة يمكن أن يكسف قادة الحزب ويجعلهم يجرون إجراءات إصلاحية صغيرة تتبعها أخري صغيرة بما يحقق الإصلاح الشامل في النهاية. وهذه الرؤية قاصرة هي الأخري لأنها تتجاهل أن مثل هذه المطالبات والبيانات وغيرها من الوسائل الرقيقة لم تنجح خلال 30 عاماً من حكم الحزب في أن تجعل الحزب يحدث اي إصلاحات سياسية، حتي ما يزعمه من إصلاحات وتعديلات دستورية كانت بهدف زيادة قبضة الحزب علي السلطة، وسد أي منافذ أو متنفسات يمكن أن يستفيد منها المعارضون في توسيع هامش المشاركة السياسية لهم. وهناك مجموعة أخري من المعارضين تري أن تغييرا في رأس السلطة يمكن أن يسفر عن تغييرات أخري متلاحقة بما يؤدي إلي تغيير ما في الحياة السياسية المصرية، وهذا الأمر هو الآخر وهم يتجاهل أن مثل هذا التغيير سيأتي بعضو من الحزب الوطني تربي علي الاستبداد ومن بقايا الاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي، ثم حزب مصر وبعده الحزب الوطني وكلها تنظيمات سياسية شمولية حكمت عبر الاستبداد ومساندة أجهزة الأمن، وقمع الشعب وانتهاك الحريات العامة. وإذا كان القادم غير حزبي فسيكون من الذين تربوا في مؤسسات أخري غير ديمقراطية، ولم يخض عبر تاريخه أي اختبار ديمقراطي، ولم يحتك باي مجموعة ديمقراطية، وبالتالي لايمكن توقع أن يأتي أي من هؤلاء بإصلاحات سياسية، بل المتوقع أن تزداد الأوضاع سوءا في ظل هذا الخيار. ومشكلة الثلاثة أنواع من الإصلاحيين أنهم لا يدركون أن الإصلاح في ظل الحزب الوطني وهم، وأن استمرار وجوده في السلطة أمر معوق لأي إصلاح، ليس فقط لأنه حزب استبدادي يزداد شمولية يوما بعد يوم، ولكن لان الإصلاح يتطلب تغييراً وليس تعديل البنية السياسية بصورة كاملة، وفتح الباب أمام تداول السلطة، وفصل العمل السياسي عن نشاط أجهزة امن الدولة التابعة لوزارة الداخلية، وكلها مهام لن يقدم الحزب الوطني عليها. وهذا الأمر يرجع إلي أن الحزب لن يقدم علي تعديلات دستورية وقانونية تكون نتيجتها النهائية هي رحيلة عن السلطة، وبالطبع فإن الحزب وكبار قياداته من الحرس القديم أو أصحاب الفكر الجديد ليسوا من السذاجة والرومانسية التي تؤدي بهم إلي إصدار قرار برحيلهم عن السلطة لمجرد أن مطالبات رقيقة وجهت إليهم . ومن يتصور ذلك يكون ساذجا مثلهم. فالإصلاح ليس فقط عملية سياسية وإنما هو حزمة شاملة، أولها يتعلق بالانحياز الاجتماعي للسلطة وتوفير العدالة بين الناس سواء بالمعني الاجتماعي لها أم بالمعني القانوني . وهذا الأمر لن يتوفر من دون إتاحة الفرصة أمام الشعب باختيار ممثلية الحقيقيين، عبر انتخابات حقيقية غير مزورة، يتم فيها تزييف إرادة الناس. وبالتالي فإنه علي الإصلاحيين الحقيقيين، حتي ولو كان داخل الحزب الوطني زمرة منهم، ألا يضعوا في اعتبارهم أن الحزب الوطني يمكن أن يقر بإصلاحات، وإنما الإصلاح يتمثل في إزالة الحزب نفسه عن السلطة، وهو ما يتطلب استراتيجية جديدة للتعامل مع قضية الإصلاح تختلف عن المطالبات الساذجة الرقيقة التي تقدمها النخبة السياسية للحكومة وحزبها، وأن تتجه هذه النخبة إلي مخاطبة الشارع وربط قضاياه اليومية ومعاناته الحياتية بالإصلاح السياسي، والكشف عن أن الانحياز الاجتماعي للحزب الوطني هو أساس المشكلات، وأنه هو الذي يعطل الإصلاح السياسي بما يجعل معاناة الناس مستمرة إلي الأبد. وقد يقول قائل إن تجاهل الحزب الوطني له مخاطر كبيرة، وإنه صورة ما من صور الفوضوية، والرد علي هذا القول بسيط جدا هو أن جزءاً من معركتنا مع الحزب الوطني لابد وأن تنطلق من نزع الشرعية عنه وعن سلطته وهو الأمر الذي سوف تكون له انعكاسات كبري علي أداء الحزب وعلي تحالفاته الداخلية وتوازنات القوي داخله. ونزع الشرعية عنه يعني ألا تشارك القوي السياسية في جميع المسرحيات السياسية الهزلية التي يشرف عليها الحزب وعلي رأسها كل من الانتخابات البرلمانية والرئاسية المعروف نتائجها سلفا بسبب عدم تنفيذ الإصلاحات السياسية التي تطالب بها القوي السياسية المصرية، وهو ما يؤكد أن الحزب الوطني يبيت النية لتزوير إرادة الناخبين في جميع الانتخابات المقبلة. والذي يؤكد ما نذهب إليه هو أن جميع التجارب التاريخية تشير إلي أنه لم يوجد أي حزب استبدادي أو حزب شمولي يقرر أن يجري الإصلاحات السياسية التي تسمح بتداول السلطة، وأن كل التجارب الناجحة في التحول من الاستبداد إلي الديمقراطية انتزعت انتزاعا من براثن الاستبداد، وليس عبر المطالبات الرقيقة، وأن العوامل المعنوية والرمزية تلعب أحيانا دورا ما في كسر الناس لحاجز الخوف في مواجهة الأنظمة الاستبدادية. وهناك أنظمة أكثر استبداداًعن نظمنا، وسلطات أكثر بأسا وقسوة انتهي بها الحال إلي مزبلة التاريخ، في الوقت الذي لم يكن أحد يتوقع أن ترحل، ليس فقط عبر القوة المظهرية التي كانت تتمتع بها، مثل قوي الأمن، والعسكر، وإنما عبر تحالفاتها الطبقية القوية والمستقرة، وثبت بعد ذلك أن هذه الأنظمة كانت مثل خيالات المآتة التي لا تستطيع أن تحرك ساكنا، وتم اكتشاف ذلك عبر كسر حاجز الخوف، ومواجهة السلطة بتحالفات طبقية أكثر رسوخا واستقراراً وعددا. وعبر الكشف عن أن السلطات الفاسدة والمستبدة لايمكن التعويل عليها وإنما يجب مواجهتها والصراع معها وأن النصر عليها هو حتمية تاريخية أكثر من أن يكون ضرورة تفرضها متطلبات العصر. وكلنا يعلم أن هناك داخل الحزب قيادات من دارسي العلوم السياسية، وقاموا بتدريس هذه العلوم في الجامعات المصرية، وهؤلاء يدركون أن تجارب التاريخ تؤكد أن الإصلاح سيؤدي في النهاية إلي الإزاحة، وهم بالتالي استطاعوا أن يقنعوا هيئات الحزب بعدم الدخول في عملية الإصلاح التدريجي التي كان يمكن أن تتم قبل سنوات وتنتهي إلي تغيير بنية الحكم بصورة حضارية، لكنهم يتجاهلون أيضا، الإصرار علي استمرار الوضع الراهن سيؤدي في النهاية أيضا إلي الإزاحة لأن حركة التاريخ تؤكد أن الاستبداد إلي زوال . وإن كان لدينا في الوقت الراهن أنظمة استبدادية وقوية ومستقرة فلأنها تلبي الحد الأدني من متطلبات شعبها وهو ما لم ينجح الحزب الوطني في القيام به للسبب الذي أشرنا إليه من قبل وهو انحيازه إلي الأغنياء علي حساب الفقراء وهم عامة الشعب.