من الطبيعي في الانتخابات أن يفوز البعض ويخسر البعض الآخر, ومن الطبيعي أيضا أن تتعدد التفسيرات والاجتهادات بشأن نتائج الانتخابات ودلالاتها السياسية والمستقبلية. ولذا فالحوار الدائر بشأن تطور العملية الانتخابية ومدي قانونيتها ومدي شرعية البرلمان المنتخب . في ضوء رصد بعض التجاوزات في عدد من الدوائر, وأحكام المحكمة الإدارية العليا بشأن بطلان الانتخابات في عدد من الدوائر لاسباب إدارية بحتة, وللخلاف بشأن توصيف بعض المرشحين, والعلاقة بين انتخابات مجلس الشعب والانتخابات الرئاسية المقبلة, هو حوار مهم يكشف الطريقة التي تفكر بها نخبة المصريين تجاه أحد أهم العمليات السياسية والتي تفصل بين مرحلة وأخري في العمل العام والنظام السياسي. ولا شك أن البرلمان الجديد يتضمن عددا من السمات التي تختلف عن سمات مجالس الشعب السابقة التي تشكلت في غضون العقدين الماضيين, وأبرز هذه السمات سيطرة الحزب الوطني بما يقترب من90% من إجمالي عدد النواب, مقابل معارضة تزيد قليلا عن10% من جملة الاعضاء, وسمتها الغالبة زيادة عدد المستقلين بنسبة80%, مقابل حصول الاحزاب علي نسبة العشرة في المائة الباقية, موزعة علي أحزاب الوفد والتجمع والجيل ونائب منتم لجماعة الاخوان. وهي نسب قابلة للتعديل, ففي حالة انتقال عضو أو أكثر من فئة المستقلين مثلا إلي فئة الحزبيين سوف تتغير النسب الداخلية بين ممثلي المعارضة, ولكنها لن تغير شيئا من حقيقة سيطرة الحزب الوطني علي مجلس الشعب. ويلحق بالسمة السابقة سمة أخري تتمثل في الخروج شبه الكامل لجماعة الإخوان, والتي لم ينجح لها سوي عضو واحد, بعد ان كان يمثلها في البرلمان السابق كتلة كبيرة قوامها88 عضوا. وهو ما يؤشر إلي محدودية حجم تغلغل الجماعة في الشارع السياسي المصري, وذلك علي عكس ما تم الترويج له بمبالغة شديدة من أكثر من مصدر في السنوات الخمس السابقة, كما يؤشر أيضا إلي أن الجماعة بحاجة إلي عملية مراجعة دقيقة لحصيلة عملها العام سواء تحت قبة البرلمان أو خارجه, وإلي عملية إعادة بناء وفق أسس جديدة, هذا إذا أرادت أن تكون لاعبا سياسيا ذا مصداقية في ظل الدستور والنظام الجمهوري المدني الذي ترتضيه الغالبية العظمي للمصريين. أما السمة الثالثة فتتعلق بالثبات النسبي لتمثيل أحزاب المعارضة, ففي البرلمان السابق كان عدد المنتمين للأحزاب10 أعضاء موزعين علي أحزاب الوفد والتجمع والغد, أما في البرلمان الجديد فقد زاد العدد إلي12 نائبا موزعين علي الوفد والتجمع والجيل. وهي نسبة زيادة ليست مؤثرة بالمعني السياسي العام. هذه السمات الثلاث الكلية تعني أن التغيير الاكبر الذي افرزته نتائج الانتخابات والمتمثل في سيطرة الحزب الوطني قد جاءت علي حساب هزيمة قاسية لجماعة الاخوان, ولم تكن علي حساب المستقلين أو الأعضاء المنتمين للأحزاب, والحق أن هذا ما خطط له الحزب الوطني منذ نهاية انتخابات2005, وحقق بالفعل ما أراد. وتعني أيضا أن حركة الأحزاب المعارضة وشعبيتها في الشارع السياسي لم تتقدم كثيرا, بل تكاد تكون عند نفس الحجم المعتاد علي الأقل في العقد الماضي. طبعا قد يقول قائل إن هناك انسحابات حصلت من كل من الاخوان والوفد, وانه لولا هذه الانسحابات لكانت طبيعة مجلس الشعب قد تغيرت عما هي عليه الآن. وهو قول صحيح نظريا, ولكنه لا يقود إلي تغييرات كبري في المعادلات الحاكمة لمجلس الشعب, لأن عدد الذين انسحبوا في الجولة الثانية سواء من الإخوان أو الوفد لم يزد علي30 نائبا, وبافتراض أنهم قد حققوا جميعا الفوز مقابل هزيمة منافسيهم من الحزب الوطني, فإن حجم التغير في نسب تشكيلة البرلمان سيكون محدودا ولم يكن يغير من حقيقة سيطرة الحزب الوطني شيئا, اللهم انخفاض نسبة السيطرة من90% إلي نحو85%. هذه المعادلات التي ستحكم مجلس الشعب الجديد لها بالفعل نتائجها السياسية الكبري, كما أن لها اسئلتها المستقبلية المفصلية. ويمكن أن نرصد هنا ثلاث إشكاليات كبري فجرتها نتائج الانتخابات, وهي إشكالية المعارضة وكيف ستكون ومن سيكون رجالها, وإشكالية شرعية البرلمان وتكهنات البعض بأن حل البرلمان هو الرد الوحيد علي ما حدث من تجاوزات, وإشكالية العلاقة بين انتخابات البرلمان وانتخابات الرئاسة المقبلة في الربع الأخير من عام.2011 وفي تصوري أن الذين يثيرون علاقة مباشرة بين انتخابات المجلس والانتخابات الرئاسية المقبلة, فإنهم يفتعلون علاقة غير موجودة, فالدستور قد حدد طريقة انتخابات الرئاسة ووضع لها ضوابطها, واعطي للأحزاب حق ترشيح أحد اعضاء قيادتها العليا للترشح والمنافسة علي المنصب الرفيع, فمن أين جاء تأثير مجلس الشعب علي انتخابات الرئاسة المقبلة؟ والحاصل هنا أن الذين يطرحون إشكالية المعارضة القادرة علي إحداث تغييرات كبري في عملية التشريع للقوانين وفي الرقابة علي أعمال الحكومة في ضوء سيطرة الحزب الوطني هم محقون. فنسبة10% المحسوبة للمعارضة إجمالا غير قادرة علي إحداث تغييرات أساسية في أي مشروع قانون قد يتقدم به الحزب الوطني ويصر علي تمريره كما هو, ولكنها في الآن نفسه ستكون قادرة إن ارادت وقامت بواجبها كما ينبغي علي إبداء ملاحظات قوية ومؤثرة, وربما تؤدي إلي تعديلات جزئية مهمة, وإن كان الأمر في النهاية سيخضع لتقديرات الحزب الوطني وحكومته. والمتصور هنا أن قدرة المعارضة الحزبية أو المستقلين علي التوجه للرأي العام بأعلي قدر من الحكمة والموضوعية سيكون لها تأثيرها الذي لا يمكن تجاهله. ومعني ذلك أن آليات عمل المعارضة وحصافتها وعدم تشتتها في قضايا فرعية او جزئية سوف يمكنها من أن تمارس معارضة مؤثرة إلي حد ما شريطة جذب تأييد الرأي العام. وفي إطار الجدل الدائر والتكهن بأن الحزب الوطني نفسه قد يدفع ببعض أعضائه للقيام بدور المعارضة عند المناقشات مع الالتزام بقرار الحزب عند التصويت علي مشروعات القوانين, فهذا ليس بجديد وقد حدث بالفعل في مجلس الشعب المنصرم وفقا لتقديرات النواب أنفسهم وليس من خلال قرار حزبي كما تقول بعض التكهنات علي سبيل السخرية. ولعل المناقشة الموضوعية لهذه القضية قد تطرح خيارات أخري للحياة الحزبية ككل وليس فقط للحزب الوطني. ونشير هنا إلي رأي طرح عقب انتخابات برلمان2005 وإن لم يناقش بجدية آنذاك ومفاده أن الحزب الوطني وبما أنه يمثل إطارا سياسيا عاما تنضوي تحته فئات مختلفة من المجتمع, وتوجد بينها تباينات بشأن العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, فمن الممكن أن يتجه الحزب إلي أن يكون حزبين كبيرين علي غرار الحالة الأمريكية, وفي هذه الحالة تصبح عملية انتقال السلطة وتدويرها بين هذين الحزبين مسألة طبيعية وغير مقلقة للنظام القائم في مصر, ومن ثم تحدث انفراجه ديمقراطية كبري من جانب, كما تقدم نموذجا في التحول السياسي من حزب مهيمن إلي حزب رائد ينافسه حزب قوي آخر. وبالقطع لا يعني مثل هذا التحول من حزب إلي حزبين انقساما بقدر ما يكون تحولا سياسيا جبارا يستند إلي بلورة رؤيتين فكريتين كبيرتين تستقطب كل منهما نسبة كبيرة من الأعضاء الذين يفضلون أن يكون لديهم حزب محدد الرؤية عن أن يكون حزبا فضفاضا يمثل مظلة واسعة من الأفكار المتعايشة مع بعضها البعض. والمهم هنا أن من يميلون لهذا الرأي لا يصلون إلي حد الاختفاء المباشر والفوري للأحزاب الأخري كالوفد أو التجمع أو الناصريين وغيرهم, ولكنهم يرون أن هذه الاحزاب ستظل محدودة العضوية والتأثير في الشارع السياسي وقد تفضل الانضمام لاحقا إلي أي من الحزبين الكبيرين, أو أن تنزوي تدريجيا وبقرار شعبي خالص مع حركة التاريخ. ولكن ما هي علاقة هذا الطرح بمسألة أو بالأحري احتمال أن يعارض بعض أعضاء الحزب الوطني مشروعات قوانين يتقدم بها الحزب الوطني نفسه؟ لعل ذلك يكون مقدمة لبلورة الاتجاهات الكبري ومن ثم بلورة حركة تاريخية تنتهي بوجود حزبين كبيرين. وفي تصوري أن مراقبي الحياة السياسية في مصر عليهم مهمة متابعة مثل هذا الاحتمال, الذي تعززه نتائج انتخابات مجلس الشعب الاخيرة. أما الاشكالية الثانية فتتعلق بمدي احتمال حل المجلس في ضوء وجود بعض تجاوزات بعضها صادم ولا يمكن الدفاع عنه بأي حال. وبينما يوجد من يعتمد علي هذه التجاوزات باعتبارها تشكك في نزاهة الانتخابات وتنفي الشرعية عن انتخاب المجلس وتبطله تماما, ومن ثم لا بديل سوي حل المجلس وإعادة الانتخابات في جميع الدوائر, يوجد من يقول بأن وجود بعض التجاوزات لا يعني بطلان المجلس, خاصة أن البت في هذه التجاوزات هو من صلاحيات اللجنة العليا للانتخابات, وهي من بيدها الحكم بشرعية عملية الانتخابات من عدمه سواء في عموم اللجان أو في بعض منها. والمعروف أن بطلان المجلس ككل ليس مجرد أمنية أو مقولة سياسية أو دعائية مهما تكثفت وتكررت علي ألسنة قيادات معارضة, وانما يتعلق أساسا بحكم دستوري لابد أن تصدره المحكمة الدستورية العليا استنادا إلي عدم دستورية القانون المنظم للعملية الانتخابية نفسه وليس أي شئ آخر. وما دام الأمر لم يصل إلي هذا الحد, فإن شرعية البرلمان المنتخب ستظل في غير نزاع.