تعجب بعض الأصدقاء من دعوتي لثقافة الحرب وهم يعرفون عني مدي كراهيتي للحرب ورفضي لها، سألوني: هل الدعوة لثقافة الحرب، هي دعوة إلي الحرب؟ كيف ذلك وأنا أعلن حرجي، - بل رفضي لو استطعت - أن أزهق روح محارب لا أعرفه وراءه أسرة تنتظره، لمجرد أنه أطاع رئيسه ليكون في مرمي مدفعي، في ميدان قتال حضَرَهُ ليقتلني؟ ما هذا التناقض؟ رحتُ أبحث في أوراقي، وذاكرتي: أنا أكره الحرب كره العمي، عادي، وقد بدأت كراهيتي لها منذ صباي (14 سنة) حين قرأت رواية «كل شيء هادئ في الميدان الغربي» للكاتب الألماني «إيرش ماريا ريمارك» (1929)، نفس بداية الصديق علي سالم في كراهيته للحرب، وله ما انتهي إليه، ما دام يتحمل مسئوليته، في حين انتهيت أنا إلي أن ثقافة الحرب، هي قانون البقاء، هي حالة استنفار دائم لوعي يقظ محب للحياة، جاهز للانقضاض علي أعدائها الظلمة القتلة، حالة لا تهدأ أبدا حتي بالسلام، الذي هو - كما ذكرت - «سكتة» بين حربين. ثقافة الحرب هي الجهاد الأكبر، هي تآمر مستمر لصالح الحياة، شريطة أن يتم تحت مظلة عدل حقيقي بفرص متكافئة. ثقافة الحرب هي هذا الوعي الدائم بحالة حرب حياتية يمكن أن تفرز إبداعا، أو تصنع قنبلة ذرية، أو تنتصر في معركة، أو تنهزم فنتعلم فنحارب من جديد. لعل هذه الحالة هي التي قفزت مني منذ ربع قرن في مقال «قصة» يؤيد العمليات الانتحارية مادام ليس لها بديل، لتنشر في الأهرام (1985/10/17). أكتشف الآن أنني - برغم تأييدي لمعاهدة السلام - مازلت أعيش ثقافة الحرب كما ظهرت في هذه القصة: «الذراع.. والحزام». تمتد الذراع الأفعي إلي حيث لم أحتسب، تنسحب اليد اللزجة فوق المجري المخفي في ثنايا الستر، تلصقني الأخري علي قفاي، يتنخم صوت خشن دون توقف حتي أتبين أنها قهقهة تصدر من أمعاء مخمور لم يتقيأ، يبصق علي وجه ابنتي النائمة في حجري قائلا: «..كله بثمنه..واللي عاجبه». الممثل الأكبر يدهن شعره المصبوغ بشحم نتن، يتحدث عن العدل القاتل والرد الملغوم، وصدور تشريع أحدث لتقنين النذالة والوغدنة المُوَجّهة، أيوالله، أتقيأ شِعرِي، أوزان قصائده حجارة من سجيل تلطم وعيي، أفتح درج مكتبي لأبحث عن نتائج آخر بحث علمي لم أفسِّر بعد نتائجه، أرقام مرصوصة في جداول معقدة، يشغلوننا طوال الوقت بهذا العبث الدائر حول جزئيات الجزئيات، أعثر مصادفة علي عقد زواجي فأخفيه بعيدا خشية تمزيقه، ألعن ميثاق الأممالمتحدة والوصايا العشر، وإعلانات العمرة السياحية. أخجل من مجرد التفكير، لا أجرؤ أن أتطلع في وجه حفيدي، يستدير - نائما - يخفي وجهه في رحم وسادة صغيرة، ليست نظيفة، ألعن الانتخابات، والصحف، وأبراج المساكن، والمدن السياحية وأسعار الدولار، أطمس إحساسات غافلة لم تطمس بعد، ما عاد يجوز.. ما عاد يجوز.. أتحسس خيط الدم يجري في كل دروب وجودي، فهو القتل. فرض كفاية؟أظن كفاية، بل فرض عين لا يسقط أبدا، لا يسقطه أن تحارب كل الأجنة في بطون أمهاتها، لا يسقطه أن يتبدل الناس غير الناس، العار يصبح عارا أبشع إذا عبثت به عتمة الذاكرة أو مؤتمرات القمة. سوف أقبل الدعوة، هذا هو رقم تليفون قريبي الذي كان يعمل بالمخابرات، يكرههم أكثر من كراهيته لذئب مسعور يجري جائعا في روضة أطفال، سوف يدلني علي نوع المتفجرات وطريقة التشغيل، لابد أن تكون الزيارة العلمية الثالثة أو الرابعة حتي يطمئنوا، زملائي يحسنو النية مهدوا الطريق، الأسس النفسية للتفاوض الدولي (!!) ليكن بحثا علميا يحتاج لمقابلة الصقور والحمائم مجتمعين، سيكولوجية العلاقات الحازمة الإثنية (أي كلام بلا معني: بكاهلشا رونميزيز) - الحزام رقيق السمك تماما، والتحكم من خلال قلم حبر جاف، يحتد النقاش العلمي، أنفجر، بي - فيهم.. معلنا وصيتي، رسالتي. أنتقل عبر الحاجز غير المرئي أشعر أني أخف وزنا حتي أتصور - فرحا - أن الطيران اللولبي الصاعد سوف يدوم إلا أن ثقلا يدب في أطراف أصابع القدمين، يتسحب للساقين فالجذع، يجذبني الثقل إلي أدني أهبط أهبط في رعب ساحق، لماذا؟ ألم أفعل ما ينبغي؟ ألا يكفي؟ أحاول أن أفيق مرتين بلا جدوي. لا أعرف السباحة والبركة آسنة بلا قاع، أغوص -رغم زئبقية القوام - في منقوع العار والمرارة (لم تكتب سناء المحيدلي قصة، لم تقرض شعرا، ولا قامت ببحث علمي لمؤتمر يستمني). لا أجد عذرا أنتحله، عنين يتواري خجلا من استمراره حيًا. انتهت القصة، ولم تنته الحروب!! بالرغم من أن «كل شيء هادئ في الميدان الشرقي»