حين يذكر أمام أحد منا مصطلح (التفرقة العنصرية)، يرد على خاطره فورا نظام جنوب أفريقيا العنصري البائد، الذي أرسى قواعده البريطانيون أوائل القرن التاسع عشر، ثم رسخوا التعامل به كقانون الأبارتيد (الفصل العنصري) في عام 1948، وسقط عام 1993، وأعقب سقوطه انتخابات برلمانية ورئاسية دخلت بها جمهورية جنوب أفريقيا عصر الديمقراطية، حين انتخب نيلسون مانديلا أول رئيس أسود للجمهورية عام 1994..
هذه النبذة عن جنوب أفريقيا تقودنا إلى التعريف الموسوعي للعنصرية، فهي الاعتقاد بأن ثمة فروق وعناصر موروثة في طبائع الناس أو في قدراتهم، عزيت لانتمائهم لجماعة ما، أو لعرق ما، ترتب عليها اختلاف معاملة هؤلاء اجتماعيا وقانونيا، فتحرم هذه الجماعات من حقوق أو امتيازات، وقد يستند التمييز العنصري على فروق جسمانية، كلون بشرة أهل أفريقيا، أو فروق عرقية كالبربر والطوارق والأكراد، أو فروق دينية كمسلمي البوسنة وألبانيا وكشمير وميانمار.
ويهيئ لنا هذا التعريف الموسوعي أن مصر تخلو من هذه الثقافة المقيتة، مع إن العكس هو الصحيح، فالمصريون دأبوا منذ عشرات السنين، بل قل منذ مئاتها على التصرف في بعض الموضوعات والمواقف على أساس التمييز العنصري، من حيث يدرون أو لا يدرون، حتى أصبحت ركيزة من ركائز الثقافة المصرية غير المكتوبة، مع إن كل الدساتير التي كتبت في مصر من دستور 1923 حتى دستور 2012 جرّمت في نصوصها هذه الثقافة. خد عندك عزيزي..
أليس المصريون من أهل الشمال هم من اعتادوا التعامل مع أهل الجنوب على أساس لون جلودهم ؟ ألم نقض عشرات السنين وبوّابو العمارات معظمهم من السودان أو أسوان والنوبة؟ وتشهد أفلام الأربعينيات والخمسينيات على هذه العادة العنصرية، الخادم (البربري) يرتبط إخلاصه (لأسياده) بلون بشرته، وحتى هذه الأيام، أليست الخادمة المفضلة لدى الأسر الموسرة هي التي استُقدمت من غانا أو أثيوبيا أو نيجيريا ؟ أما أصبح مشهدا معتادا في مصر أن تجد (الست) سائرة في النادي ومن خلفها الخادمة (السوداء) الأفريقية، تحمل الحقيبة وفي يدها الولد أو الولدين (الأبيضين) ؟
هل تعرف حضرتك رجلا مصريا (أبيض)، تزوج من امرأة أفريقية (سوداء) ؟ هل عرفت في حياتك مصرية (بيضاء) تزوجت من رجل سوداني (أسود) ؟ قد تكون عرفت مثل هذه الزيجات حين يسافر المصري (الأسمر) إلى أوروبا، فيتزوج من امرأة أوروبية بيضاء، أو العكس، أما في مصر فلا أعتقد !
قد تتهمني حضرتك بأنني بكلماتي هذه عنصري؛ وأرد على حضرتك: فعلا.. أننا بانتمائنا إلى الشعب المصري نعيش ونمارس العنصرية كل يوم، بل كل ساعة..
لقد عدّل المصريون في مفهوم العنصرية ليجعلوه أوسع وأشمل، ألسنا في مصر دائما ما نصف أهل الخليج بأنهم حفاة وعراة فتح الله عليهم، وأنهم لولا النفط ما استطاعوا أن يحنوا رقابنا ؟ ألسنا نفخر دائما بأصولنا الفرعونية، ونتباهى بها على أصولهم البدوية ؟ وعلى أصول السودانيين الأفريقية ؟ أليست هذه عنصرية ؟
أوليس المسيحيون في مصر محرومين من الترقي إلى وظائف معينة في الدولة ؟ أليست المرأة في مصر تعاني ذات الحرمان ؟ أليس البهائيون ممنوعين من كتابة دينهم في بطاقاتهم الشخصية ؟ ألا يجبر الأطفال على العمل، والتسرب من التعليم، وأطفال الشوارع أصبحوا ظاهرة مقلقة تهدد أمن المجتمع كله ؟ أليست هذه عنصرية ؟
ألم تسمع عبر عشرات السنين عبارة: (إنت مش عارف بتكلم مين)، عشرات ومئات المرات ؟ ألم تقف في طابور النيابة أو المرور، وتنظر من الشباك فتجد من ينهي أوراق الراشين أو الموصّى عليهم من الأقارب والأصدقاء، بينما رأسك تحترق ساعات تحت الشمس ؟ أليست هذه عنصرية ؟
ألا يتمتع الرؤساء والقضاة والوزراء وأعضاء المجالس النيابية وضباط الجيش والشرطة، بحصانة رفعتهم إلى مصاف الآلهة الذين لا يحاسبون ولا يُساءلون ؟ أليست هذه عنصرية ؟
الغني له المستشفيات الاستثمارية الخاصة، يتلقى فيها العلاج (بفلوسه)، أما الفقير فله مستشفيات وزارة الصحة والتأمين الصحي معدومة الإمكانات، فإن لم يعالج آلامه الأسبرين؛ فالأفضل له أن يموت إن مرض ؟ أليست هذه عنصرية ؟
أوائل كليات الحقوق يبحثون لهم عن عمل يسدون به رمقهم، بينما أبناء القضاة ذوي المراتب الأدنى في الدرجات والعلم، هم الذين يعينون في النيابة والوظائف القيادية، بناء على علاقاتهم الأسرية، وجيناتهم القضائية.. أليست هذه عنصرية ؟
وعلى المستوى الاقتصادي، مارس نظام مبارك منتهى العنصرية والتعسف مع أبناء الشعب الواحد، فخريج كلية الحقوق أو الشرطة، الذي يمتلك الواسطة العائلية المناسبة، فيعين في سلك النيابة، يتلقى مرتبه 12 ألف جنيه، بينما الطبيب الذي تخرج في نفس السنة، لا يتعدى مرتبه ال 300 جنيه.. هذا يبحث عن نوبتجية ليلية بسبعة جنيهات، وذاك يرفل في النعمة والحصانة العائلية والقضائية.. أليست هذه عنصرية وتمييز على أساس الواسطة والمحسوبية ؟
ضابط الشرطة الذي وصل إلى رتبة اللواء مرتبه مئات الآلاف من الجنيهات، بينما عسكري الأمن المجند لا يتعدى مرتبه 100 جنيه ! ومش كده وبس؛ اللواء يختار مجموعة من العساكر يكونون في خدمته، وخدمة أهل بيته وأبنائه، ويعاملونه كعبد اشتراه اللواء منذ أصبح مجندا عنده ! أليس هذا تمييزاً على أساس عنصري طبقي مقيت ؟
عبر ثلاثين الأعوام التي حكمها مبارك، أهمل أهل الصعيد وأهل سيناء، وحرموا من أبسط حقوقهم، بينما تركزت الخدمات في العاصمة، وانحصر الاهتمام بأهل الحضر، في دولة تدّعي بدساتيرها المتلاحقة المساواة بين أفراد الشعب الواحد.. أليست هذه عنصرية ؟ وفي ذات هذه الأعوام السوداء، ألم يكن الالتحاق بكلية الشرطة أو الحربية مشروطا بكشف (الهيئة)، أليس هذا الكشف مظهرا من مظاهر العنصرية ؟ ألم تكن الرِشوة التي تدفع لفلان أو علان شرطا لدخول هاتين الكليتين ؟
الرشوة والواسطة والمحسوبية والفساد في التعيين في الوظائف، والحصانة وغياب المساءلة وعصمة القضاة والرؤساء والوزراء والضباط، كلها من مظاهر التمييز العنصري عند المصريين ضد المصريين..
ومظهر آخر من مظاهر العنصرية التي يمارسها المصريون؛ العنصرية السياسية، بدأت مع نشأة الجمهورية الأولى عام 1954؛ جمهورية الرئيس عبد الناصر، حين شرع في تصفية خصومه السياسيين، فبدأ في (شيطنة) الإسلام السياسي الذي يمثله الإخوان المسلمون عبر خطبه الحماسية، وتعليقاته الساخرة عن أقطابهم ودعاتهم ومنظريهم، فوصف منهجهم بالرجعية والتخلف، وأنهم يحاولون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فهم سيحجّبون النساء، ويقمعون الشعب بالنصوص التراثية البالية، ويمنعون التفكير ويصادرون حرية الإبداع، ووو.. وكان مكانهم الطبيعي؛ بقوة الجيش التي ملكها ووجه سلاحها إلى الداخل؛ في السجون الحربية والمعتقلات وعلى منصات الإعدام، ومرت الأيام، واستخدم نظام مبارك ذات العنصرية السياسية حين اخترع (فزّاعة) الإخوان، ورحل مبارك، وأتيحت الفرصة أمام الشعب المصري ليختار ممثليه في مجلس الشعب 2012؛ فاختارت الجماهير ثلاثة أرباع ممثليها من (شياطين) الإسلام السياسي، وكانت تلك ضربة قاصمة لدعاة شيطنة هذا الاتجاه من الناصريين ودعاة العلمانية، ( على فكرة.. لم يحصل الحزب الناصري أو الشيوعي على مقعد واحد في تلك الانتخابات !!)
وثبت لمن مارسوا العنصرية السياسية ضد المؤمنين بالإسلام السياسي، أن الشعب سيختارهم رغم العنصرية المزمنة، وعادت قنوات العنصرية السياسية إلى نشاطها المحموم لمصادرة إرادة الشعب ورأيه، على اعتبار أنه شعب جاهل، لا يعرف مصلحته، يضحك عليه الإخوان بكيس سكر وزجاجة زيت، والديمقراطية الحقيقية لا تقاس بصناديق الانتخاب؛ كما يعتقد العالم المتخلف، وإنما تتحقق بحلّ المجالس المنتخبة، وهدم مؤسسات الدولة، وقتل الإرهابيين (المتأسلمين)، ليبحث الباقون منهم عن وطن آخر !! وأنت أيها المواطن الجاهل؛ لا تفكر فنحن نفكر لك، ولا تختر فنحن نختار لك، ولسنا نريد سماع رأيك، فرأينا هو الأمر الواقع..
وهذه الأيام طفا على سطح الشخصية المصرية نوع آخر من مظاهر العنصرية السياسية، من يؤيدون عزل الرئيس مرسي يرون التمييز العنصري ضد الإخوان المسلمين ومن يواليهم؛ هو الأسلوب الأمثل للتعامل مع أولئك السحالي والجرذان والأفاعي، ككائنات إرهابية ضارة بالمجتمع، مع إن العالم كله منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي يحاول أن يتوافق على تعريف للإرهاب؛ فلم يستطع، أما هؤلاء المصريون (الشرفاء) فقد عرّفوا الإرهاب وصدّقوا تعريفهم، ويطلبون عبر الإعلام (الشريف) من وزارة الداخلية (الشريفة) فضّ اعتصامات (الإرهابيين) في الميادين، وإن أدى ذلك إلى قتل المزيد من المصريين؛ مش مهم.. المهم الأمن القومي، حتى وإن سفكنا دماء نصف الشعب..! ألا تعتبر كل هذه الممارسات عنصرية سياسية ؟ فإن لم تكن؛ فماذا نسميها ؟
إننا في مصر نمارس العنصرية على كل مستوياتها، في كل تفاصيل حياتنا نحن عنصريون، شئنا أم أبينا، وهذه الممارسات العنصرية التي ذكرتها؛ وغيرها كثير، كانت من العوامل الرئيسة التي اندلعت بسببها ثورة 25 يناير ذات الأيام الأربعة، فكان ضمن المطالب الأساسية للثورة بعد العيش والحرية؛ (الكرامة الإنسانية) التي سحقت تحت نعال الحكام، وبيادة النظام العسكري لسبعة وخمسين عاما، وإن لم نعترف بأن هذه العنصرية هي أحد أهم مشكلاتنا؛ فلن تكون لدينا القدرة على حلّها، وسنبقى ندور في فلك العنصرية التي ورثناها، فتربّت في عقولنا ثقافةً، ثم رسخت في أنفسنا وحياتنا عقيدةً، ليس من السهل الخلاص منها، إلا من رحم ربي..
رحم الله جبران خليل جبران الذي نعى العدل في الأرض في أبياته: والعدلُ في الأرضِ يُبكي الجنَّ لو سمعوا بهِ ويستضحكُ الأموات لو نظروا فالسجنُ والموتُ للجانين إن صغُروا والمجدُ والفخرُ والإثراءُ إن كبروا فسارقُ الزهر مذمومٌ ومحتقرٌ وسارق الحقل يُدعَى الباسلُ الخطرُ وقاتلُ الجسمِ مقتولٌ بفعلتهِ وقاتلُ الروحِ لا تدري بهِ البشرُ إسلمي يا مصر..