سماء مصر ملبدة، بمخاوف سوداء داكنة، على غير عادة، هذا الوقت من العام، وقسمات وجهها إذ تتأهب لاستقبال رمضان، أربدت خاليةً، من علامات البهجة الموسمية، وفي عيون أبنائها الطيبين المسالمين، يعربد قلق وتوجس، وعلى المقاهي الفقيرة، بنواصي الحواري الملتوية، تتلاشى القهقهات العفوية، و«القفشات اللمّاحة» في صمت الخوف، المختلط بسحب الدخان والغبار.
هكذا الصورة تنضح كآبةً، عكس المتوقع، بعد أن أسقطت مصر، نظامًا لم يكن منها، وبصقت تنظيمًا دوليًا، إرهابيا كعصابات المافيا، في نوبة ثورية، تآلف وتصالح فيها الشعب، الثوار مع مؤيدي النظام السابق، «لا رموزه»، ونزل أعضاء «حزب الكنبة»، لأول مرة إلى ميادين الحرية. الحناجر هتفت هتافًا، لا يختلف عليه مصريان: «تحيا مصر»، وترقرقت موسيقى بليغ، والملايين تردد: «حلوة بلادي السمرا»، و«يا حبيبتي يا مصر».
ثورة لاستعادة الثورة، ثورة بيضاء تحقيقًا، تسرُ الناظرين، وانضوى تحت لواء وطن «الكل في الواحد»، كما يقول أمل دنقل، سكان العشوائيات، وأصحاب الفلل الفارهة، المطلة على النيل، واحتضنت الميادين، الذين جاؤوا، من كل فج عميق، بسيارات ألمانية الصنع، والذين تكسدوا في وسائل النقل الجماعي، واقتسم الجميع معًا «كيزان الذرة المشوية»، الخير الطالع من رحم الطمي، ربانيًا، على ضفاف النهر الخالد، واحتسوا شايًا بالنعناع «في الخمسينة».
الشعب أمر الجيش، فرد: عُلم ونُفذ.. وسقطت دولة المرشد، التي يراد أن تتأسس، وفق نموذج إيراني، لا يشبه مصر، ولا تشبهه.. جيش مصر لشعب مصر، وسيبقى.
ثمة مخاوف لاشك، من عودة حكم الجنرالات، وهذا يرفضه عشاق الحرية، صونًا لمصر وجيشها، والأمل معقود على أن لا يعيد التاريخ نفسه، هذه المرة، علّ وعسى أن نخرج من الدائرة المغلقة.
الذين سقطوا، قرروا أن يحرقوا المعبد.
إنها الحرب، ولتكن البلاد بحرًا من الدماء، فلا شرعية إلا للصناديق، التي يعرفون السبيل إلى اختراقها، بما يرمون، إلى الفقراء، من لقيمات جافة، لا تسد الرمق، أو بوعود انتخابية، هي فقاعات صابون، يفرح الأغرار قليلًا، فيما يحاولون الإمساك بها سدى، قبل أن تتلاشى.
الجماعة الإرهابية، نشأةً وتاريخًا وحاضرًا، فتحت أبواب الجحيم، وقرع مهابيلها، نفير الحرب على مصر شعبًا وجيشًا، فليكن الدم والموت والخراب، وشهداؤنا في الجنة، وقتلاهم في النار.. أوليست مصر ديار كفر، وليس لأهلها عهد؟ كما قال المرشد العام، محمد بديع، في تحقيقات النيابة معه، سنة ألف وتسعمائة وخمس وستين، والأمة جاهلية، كما قال من قبله، رائد مدرسة التكفير، السيد قطب.
مجرمون بلطجية، ومعهم مساكين، مخدوعون، ممن يؤمنون بخرافة، مشروع الإخوان الإسلامي.. أحطاب المحرقة، خرجوا طلبًا للشهادة المزعومة، في معركة مأساوية، بين المصري والمصري.
ظهور المرشد العام، مرشد البلطجية والإرهاب، كبير السحرة، على منصة ميدان النهضة مساء أمس، كان ذروة الحرب، أو فلنقل ساعة الصفر، وبعدها تحركت دولة الإرهاب السرية.
شعار القوم الضالين: لا عاشت مصر، إن سقطت الجماعة.
ما قيمة مصر بالنسبة لتنظيم دولي مارس الدعارة السياسية، وفتح رجليه للأعداء، بدءًا بالإنجليز، مرورًا بالألمان، فالأمريكان، فالصهاينة، فدول إقليمية، تشبه على الخريطة بصقة سوداء، خرجت من صدر مسلول؟
تنظيم دولي، يعني استعمارًا خارجيًا، بغض النظر، عن جنسية أعضائه، ومصر لم تستسلم، ثانية واحدة، من عمرها، الممتد آلافًا من السنوات لأجنبي. أما المشروع الذي بيع على أنه سيحمل الخير، فقد جاء بالأخونة، وبدولة يحكمها مرشد عام، لم يبتغ إلا أن يمسخ الهوية، من أجل التمكين، والتمكين أن تتأخون مصر، فيذوب تنوعها الحضاري والثقافي، مصدر قوتها، الذي جعل أهلها في رباط، إلى يوم الدين، وجعل الذين يدخلونها، يدخلون آمنين. الموت دون الأخونة.. والجماعة دين جديد في الأرض، يجعل أتباعه أبرارًا، ومناهضيه كفارًا فجارًا، وهكذا يؤمنون بسمو «العرق الإخواني»، كما آمن هتلر بسمو الجرمان، ومن بعده آمنت الصهيونية، بسمو اليهود.
صبحي صالح، فقيه الجماعة القانوني، يسأل الله أن يقبضه على دين الإخوان.. دين الإرهاب والعبوات المفخخة، والرصاصات، التي صوبت في ظهور المعارضين، والقضاة، والمفكرين، منذ تأسست الجماعة، بواسطة «البنا ومعه البناة الأوائل».
الجماعة صارت وطنًا وجنسية، وأيضًا عبادة، فلا بأس من إراقة الدماء، وليسقط جيش مصر، بمساعدة «حماس»، أو المقاتلين السوريين والعراقيين، فالأخوة أهل وعشيرة، ومرحى باستنزاف الوطن، بل اللعنة على الوطن، إن رفض أن يتأخون، وإذا لم يصبح ذليلا، كقطة جائعة، تتمسح في حذاء المرشد، تستجدي فتاتًا، مما يتساقط من بين يديه.
هذا كلام يقوله ضمنيًا عبدالرحمن الساعاتي، شقيق البنا، في العدد الثاني من مجلة «الجيل» في ثلاثينيات القرن الماضي، إذ كتب في الافتتاحية: «خذوا الأمة برفق، ثم جرعوها دواءكم، فإن أبت فضعوا فوق ظهرها الحديد، وقيدوها بالقيود، وجرعوها الدواء بالقوة»، فلا هي مشاركة أبدًا، وإنما مغالبة فاجرة، بمحض الإرادة، أو بالإرهاب المتوحش.
لديهم السلاح، ومنهم مقاتلون، تدربوا في كهوف أفغانستان، لمصلحة الولاياتالمتحدة، ضد الاتحاد السوفيتي الأسبق، ولما انتهت الحرب، وحققوا الإرادة الأمريكية، عادوا ليشبعوا غريزة الخراب، بسفك دم الشعب، الذي طالما تعاطف معهم، وقتما كانوا مستضعفين، وقبل أن تعزهم ثورة باعوها بخسًا.
وصولهم إلى الحكم، كان سقطة.. كان عسرًا في عملية هضم الثورة، كان ردة إلى الوراء، وانتكاسة، وفخًا، وقع فيه الشعب، فأراد الخلاص توقًا للحرية.
سقط القناع عن القناع، ودحرت مصر التنظيم الإرهابي، كما دحرت كل من أرادها بسوء، من الهكسوس حتى الصهاينة، وأماطت اللثام، عن أن ما كانوا يظهرون من استضعاف، لا يبعد كثيرًا أو قليلا، عن «التمسكن حتى التمكن»، وعن أن دموعهم دموع تماسيح، وعن أنهم لا يصلحون إلا للعمل السري، تحت الأرض، كفئران اليرابيع، وما على شاكلتها من القوارض، التي تنقل للحياة الطاعون.
سقط القناع عن القناع، وانكشف مرشد البلطجية، كبير الإرهابيين، أمام الشعب، وصار التنظيم الدولي، قاب قوسين أو أدنى من التلاشي، فالإجابة: مصر، ولم تكن أبدًا، إلا مصر.